منطق الرياض!

TT

كان جون بولتون، مندوب الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، أيام الرئيس بوش الابن، قد أطلق تصريحا خلال الشهور القليلة التي قضاها مندوبا لبلاده في المنظمة الدولية، قال فيه ما معناه، إن إزالة عشرة طوابق من مبناها في نيويورك، لن يغير من الأمر شيئا، ولا من دورها في العالم، قليلا أو كثيرا!

وما يعرفه الذين يذكرون هذه العبارة، أن صاحبها كان قد تسلل إلى موقعه، كمندوب لواشنطن في الأمم المتحدة، في غيبة الكونغرس الأميركي الذي رفض إرساله واحدا بين مندوبي دول العالم، فما كان من بوش الابن إلا أن استغل وجود الكونغرس في إجازة، وأرسل «بولتون» بقرار منفرد منه، ولما انقضت الإجازة، أرغموه على أن يرسل مندوبا غيره، وهو ما كان!

طافت الحكاية على بعضها في ذهني، حين تابعت صدى اعتذار المملكة العربية السعودية، عن عدم قبول العضوية غير الدائمة، التي تقررت لها في مجلس الأمن.

ورغم أنها فازت بالعضوية، بـ176 صوتا، من بين 193 صوتا، هي كل أصوات الجمعية العامة في الأمم المتحدة، فإن المملكة رأت، لاعتبارات أعلنتها في حينها، أن تعتذر عن عدم قبول هذا المقعد، وهو مقعد تلهث وراءه دول كثيرة، فلا تسعفها ظروفها!

وبطبيعة الحال، فإن هناك فرقا كبيرا، بين موقف «بولتون» في حينه، وموقف المملكة في حينها أيضا.. فنحن، هناك، أمام رجل تسلل إلى مقعده، في غفلة من برلمان بلاده، ثم تمنى زوال عشرة طوابق من 38 طابقا، هي كل طوابق مبنى الأمم المتحدة، ليس لأنه كان يريد أن تتقشف المنظمة في مصروفاتها ونفقاتها، مثلا، ولا لأنه كان يرى أن المبنى سوف يكون شكله أجمل، لو زالت منه تلك الطوابق، ولا.. ولا.. إلى آخره، وإنما لأنه كان - شأن إدارة بلاده في أيامه، وقبل أيامه، وبعدها - لا يريد للأمم المتحدة دورا إيجابيا في حل معضلات العالم، ومآسيه، وأزماته المستعصية، وإنما يريدها، وهي المنظمة الدولية الأعلى في العالم، مجرد منظر، أو صورة، أو شكل، لا أكثر!

ونحن، هنا، في المقابل، أمام موقف للمملكة، له توجهات أخرى تحكمه، وفلسفة مغايرة تربطه، ومقتضيات مختلفة تميزه.

فالسعودية، وهي تعتذر، أعلنت أنها تريد للأمم المتحدة أن تكون فاعلة في حل مشاكل العالم، وأن تكون حاضرة، ومؤثرة، ونافذة، وواصلة، وهو ما لا تراه هي، وما لا يراه معها كل الذين يقفون مع العدل، كقضية عادلة، في عالمنا هذا.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى، التي تتخذ فيها الرياض، مثل هذا الموقف الشجاع، فمن قبل، وتحديدا في سبتمبر (أيلول) الماضي، ألغى الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، كلمته التي كان سيلقيها في أثناء الاجتماع السنوي للجمعية العامة، وكان موقفا منه ومن بلده، أثار الانتباه ولفت الأنظار، وجعل المجتمعين في قاعات المنظمة الدولية، من رؤساء الدول والحكومات، يتوقفون أمام «الرسالة» التي أرادت لها العربية السعودية أن تصل إلى صاحب كل ضمير في عالم يمتلئ بالظلم والإجحاف.

وبمثل ما أن إلغاء الكلمة المقررة سلفا، لم يكن من فراغ، بمثل ما أن الاعتذار عن عدم قبول مقعد غير دائم في مجلس الأمن، لم ينبع أيضا من فراغ، ففي الحالتين، كانت المبررات جاهزة، وموجودة، ومعلنة. ثم، وهذا هو الأهم، مقنعة لكل مَنْ يتدبرها بعقله، ويتأملها بفكره.

إذ ليس معقولا، على سبيل المثال، أن تظل الجمعية العامة تنعقد، سنويا، منذ يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، بينما الشعب الفلسطيني على حاله، بل أسوأ، عاما بعد عام.. ففي ذلك اليوم، من ذلك العام، كان قد صدر قرار التقسيم في فلسطين، بما جعلها مقسمة مناصفة تقريبا، بين إسرائيل من ناحية، والفلسطينيين، من ناحية أخرى.

صدر القرار، بهذا الشكل، وظلت الجمعية العامة تجتمع، ثم تنفض، في كل سنة، بينما معاناة كل فلسطيني تتضاعف مع انعقاده وانفضاضه، وظل مجلس الأمن، ينعقد أيضا، بصورة دورية، على مستوى أعضائه الخمسة الدائمين، والعشرة غير الدائمين، دون أن يطرأ أي تحسن من أي نوع، على الوضع الفلسطيني إجمالا.. بل العكس تماما قد حدث، وهو أن مساحة الـ50% التي كانت متاحة من الأرض، لأصحابها، عام 1947، قد جاء عليها عام 2013، لتصبح 22% بالكاد.. هذا إذا كانت هذه المساحة متاحة الآن أصلا!

فهل تكون السعودية مخطئة، إذا ما ألغت كلمتها مرة، أو اعتذرت عن عدم قبول مقعدها مرة أخرى؟!

العكس هو الصحيح، لأن القرار صائب، وهو قد جاء في وقته، وفي مكانه، لأن «بولتون» إذا كان قد تمنى بموقفه، اختفاء الأمم المتحدة من فوق الأرض، فإن الموقف السعودي على النقيض، لأنه يريد لهذه المنظمة العتيقة، أن تتحمل مسؤولياتها أمام الدول الأعضاء فيها، وأن تنهض بالأمانة المعلقة في رقبتها، بأن ترفض بحزم ظلما تراه، لأكثر من شعب، بدلا من أن تتعامل معه، بكلمات جوفاء لا تقدم.. بل هي تؤخر.

وربما يكون أهم ما في قرار الرياض، أنها بدأت طريقا نحو إصلاح الأمم المتحدة، كان الجميع يدور حوله، منذ نشأتها، ولا يقتحمه!