تقنين التظاهر في مصر الثورة

TT

يسلط الجدل الصاخب بشأن مشروع حكومة الببلاوي لقانون تنظيم التظاهر الضوء مجددا على إشكالية العلاقة بين المجتمع والدولة في ديمقراطية مصر الناشئة، خصوصا بعد أن منع الاعتصام ومنح الشرطة حق التحكم في مصير المظاهرات.

فبينما هرعت الحكومة، المنوط بها وضع القواعد المنظمة للمجال العام كما لحركة المواطنين وتفاعلاتهم في ربوعه، نحو تمرير مشروع القانون في بادئ الأمر من دون عرضه للحوار المجتمعي أو حتى استشارة وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية بشأن نصوصه، ما زالت رواسب من أزمة الثقة تلقي بظلالها على العلاقة الملتبسة بين الشعب والشرطة، والتي لم يسفر التقارب الظرفي بين طرفيها على خلفية تداعيات إسقاط حكم الإخوان المسلمين عن حلحلتها كلية، إذ لم تواكبه مصالحة حقيقية على أسس علمية وقانونية.

ومن جانبهم، يرتكز المتحمسون للقانون بصيغته الحالية على مرتكزات عدة؛ أولها أن هدفه الأساسي كما يتضح من اسمه، «مشروع قانون تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية في الأماكن العامة»، هو تنظيم التظاهر وليس تقييده، خصوصا أن حالة الطوارئ التي تلف البلاد منذ منتصف أغسطس (آب) الماضي ستنتهي في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وقد أكدت الحكومة عدم نيتها تمديدها، الأمر الذي يستوجب ابتكار آليات وإجراءات حازمة تحول دون اتخاذ التظاهرات كستار من قبل القوى الممانعة للتحول الديمقراطي والمعادية لحرية التعبير، أو حتى بعض العناصر المارقة أو الخارجة على القانون توخيا منها لتشويه ذلك الملمح السياسي الديمقراطي المتحضر من خلال الانحراف بالتظاهر عن سمته السلمية ومقاصده النبيلة وغاياته السامية والمشروعة توطئة للسقوط في براثن إحداث فوضى هدامة أو ممارسة أنشطة خرقاء على شاكلة السلب والنهب وترويع الآمنين.

وثانيها، أنه كان لأعتى الدول الديمقراطية السبق في وضع قوانين مماثلة لتنظيم التظاهر، من حيث تحديد الزمان والمكان والتزام المتظاهرين بآداب التجمهر وقواعد المرور وعدم تعطيل دولاب الحياة اليومية. وخلال المرحلة الانتقالية، تبدو مصر في مسيس الحاجة إلى قوانين من هذا النوع لوضع نهاية لأوضاعها الأمنية المرتبكة، فضلا عن توفير مناخ ملائم للاستحقاقات الملحة المرتقبة كالاستفتاء على الدستور الجديد ثم الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

وعلى الجانب الآخر، يتوجس نفر كبير خيفة من أن يستخدم القانون كمسوغ قانوني لتقييد حق التظاهر بدلا من تنظيمه توطئة لردم الروافد التي يمكن أن تصب في مجرى الثورة المتدفق، أو أن يكون خطوة على درب المساعي الحكومية لكبح جماح الاندفاعة الثورية المتأججة لدى الشارع المصري منذ يناير 2011. ولقد اتسعت قاعدة الرفض الشعبي للقانون، حيث لم تلتقِ القوى الوطنية، بشتى أطيافها، على أمر منذ الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي كما اتفقت على ذلك الرفض، حتى أن فعاليات ثورية هددت بعدم الالتزام به حالة إقراره.

ولا يعد هؤلاء القياس على أوضاع الدول الديمقراطية في هذا الصدد أمرا منطقيا، ففي هكذا دول تعمل كافة الأطراف ضمن حيز معقول من الثقة المتبادلة فيما بينها، وتتبارى في كنف مظلة دولة القانون، حيث القواعد التي تنظم سلوك المواطن وحياته وتحدد ملامح علاقته بسائر أجهزة الدولة ومؤسساتها من شرطة وقضاء وجيش وغيرها.

ورغم أنها أضحت تموج بالتوجهات الفكرية الجديدة والتكوينات الجماهيرية المستحدثة، التي انبلجت من رحم الجدل المزمن والمتفاقم بشأن تقويم ونقد نموذج الديمقراطية التمثيلية، فإن الشطر الأعظم من العملية السياسية في هذه الدول ما انفك يمارس في رحاب الفضاءات السياسية الطبيعية كالمؤسسات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ووفق أطر دستورية راسخة وسياقات قانونية صارمة، حتى بات لجوء قطاع من مواطنيها إلى التظاهر أقرب إلى إيثار تحري الآليات السريعة في التواصل مع المسؤولين والسلطات الحاكمة بغية تجاوز بطء بيروقراطية الأقنية والمؤسسات الديمقراطية التقليدية، التي قد لا تتسع برامجها واهتماماتها كي ما تولي الاهتمام الكافي ببعض القضايا المستحدثة التي قفزت إلى قمة هرم أولويات بعض الفئات الاجتماعية أو الجمعيات والمنظمات الدفاعية، مثلما يأتي أيضا من قبيل الاعتياد على ممارسة طقس ديمقراطي أصيل في مجتمعات مفتوحة وثقافات دأبت على تقديس حرية التعبير، بشتى صورها.

أما في بلدان ما برحت تتلمس طريقها الوعرة صوب الديمقراطية المستعصية كمصر، فيبدو الأمر جد مختلف إلى حد كبير، إذ انتقلت السياسة إلى الشارع واستوطنته، وصارت التظاهرات والاعتصامات في الشوارع والميادين باعتبارها أروقة مهمة للمجال العام الذي يعد مسرحا موسعا لمختلف الأنشطة والتفاعلات الجماهيرية، هي السبل الأمضى أثرا في تحقيق مطالب المواطنين وبلوغ تطلعاتهم في ظل عجز الحكومات المؤقتة ذات الأيادي المرتعشة عن تلبية مطالب الثوار، ومن ثم ارتأى ناشطون سياسيون كثر في قانون تنظيم التظاهر محاولة لتقويض الحراك السياسي الشعبي الهادر.

وما بين ضرورة التنظيم والتقنين من جهة، والمخاوف من التقييد والحظر من جهة أخرى، برأسها تطل الحاجة إلى آلية قانونية أو تشريعية مجردة عن أية أهواء عساها تحقق المعادلة الصعبة، حيث ضمان الحق في التظاهر السلمي المسؤول، بالتوازي مع العودة بالسياسة إلى أروقتها الطبيعية كالمؤسسات والتنظيمات الحزبية والأهلية التي تعمل في كنف الأطر القانونية والدستورية. وليت إعلان الببلاوي رئيس الحكومة مؤخرا عن طرح مشروع قانون التظاهر الجديد للحوار المجتمعي وترحيبه بأية تعديلات مقترحة على مسودته، يكون خطوة إيجابية في هذا الاتجاه.

ولا يظنن أحد أن بمقدور قوانين التظاهر، منظمة كانت أم مقيدة، أن تقف في وجه الطوفان الثوري المصري، خصوصا إذا ما بقيت الحالة الثورية ملتهبة طالما أن مقاصد الثورة لم تتحقق أو تبصر النور بعد، وإذا ما انهمرت الجماهير كالسيل الجارف. فالثورات حينما تندلع لا تكترث بقوانين أو تأبه بمحاذير لأنها بطبيعتها فعل استثنائي لا يخضع لمعايير المكان أو مقاييس الزمان.

* رئيس تحرير مجلة «الديمقراطية» الصادرة

عن مؤسسة «الأهرام»