كيف تخسر أميركا حلفاءها؟!

TT

بقدر ما كتب لباراك أوباما عند ولايته الأولى لرئاسة الولايات المتحدة أن يحرز قصب السبق في أمور كثيرة.. من أول رئيس «أسود» وحتى أول من نجح في إخراج قانون الرعاية الصحية إلى الوجود؛ فإنه الآن ربما يحوز مكانة أخرى بأنه الرئيس الذي نجح عهده في تفكيك تحالفات الولايات المتحدة الرئيسة. وخلال أسبوع واحد ما بين نشر مقالي السابق، ومقالي الحالي، فإن واشنطن أصبحت تواجه حالات من التوتر والأزمة بينها وبين كافة حلفائها الرئيسين، لا يستثنى أحد ولا يستبعد. وتفاوتت حالات الأزمة بين ما هو هيكلي، وما هو استراتيجي حول إدارة علاقات دولية حيوية لأطراف متعددة، وما هو لحظي حول السياسات الآنية التي تقلب الدنيا رأسا على عقب. العجيب أن أوباما الذي كان يعد أكثر رؤساء الولايات المتحدة قدرة على التواصل مع الآخرين داخل وخارج أميركا منذ رونالد ريغان؛ إذا به يبدو عاجزا عن توصيل رسالة معقولة للآخرين، وأحيانا لا يجد ما يقول سوى الصمت!

بداية الأسبوع شهدت بقايا أزمة إغلاق الإدارة الأميركية لمكاتبها بعد أن أصبحت الحكومة الفيدرالية عاجزة عن الإنفاق، لأن المسألة ببساطة أن العالم سوف يضع يده مرة أخرى على قلبه بعد ثلاثة أشهر فقط. ما لا يفهمه الأميركيون، ومن الجائز أوباما أيضا، أنه لا يمكن لإدارة أميركية أن تغلق ما يقرب من 20 في المائة من الاقتصاد العالمي فجأة انتظارا لمداولات ومناوشات ومناورات بين الإدارة الأميركية وأغلبية مجلس النواب. القضية هنا ليس فقط أسواق المال، أو حركة الاستثمارات العالمية، أو حتى سلامة البحار والفضاء، ولكن أيضا القدرة على اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية رشيدة. حلفاء الولايات المتحدة الرئيسين في العالم الغربي هم أول من تأثر بالأزمة، والعجب هنا أن واشنطن لم تلق بالا، عادّة ما يجري فيها قضية داخلية بحتة يتصارع فيها حزب الشاي و«حزب القهوة» على من عليه دفع حساب عجز الموازنة الأميركية! الدول الأوروبية ومعها بقية الحلفاء في كندا وأستراليا واليابان حبسوا أنفاسهم وتنفسوا الصعداء، ولكن القلق والتساؤل ظلا باقيين حول قدرة الولايات المتحدة على قيادة الاقتصاد العالمي.

لم تمض أيام حتى ظهر أن معضلة القيادة الأميركية أكبر بكثير مما هو مقدر.. فالقيادة الاقتصادية نابعة من النصيب الأميركي في الناتج الإجمالي العالمي، ولكن القيادة التكنولوجية ممتلئة حتى الحافة بالإشكاليات العظمى. شكل الأزمة من الظاهر بدأ مع هروب الموظف الأميركي في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن إلى روسيا مفشيا قيام أجهزة المخابرات الأميركية بالتجسس على الرسائل الإلكترونية للمواطنين الأميركيين في إطار حملتها ضد الإرهاب. كانت النتيجة هي التساؤل عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه الإدارة الأميركية في التجسس على مواطنيها. إلى هنا فإننا أمام إشكالية تقليدية بين حرية وخصوصية البشر وحماية الأمن القومي من عمليات إرهابية، ولكن المسألة تضخمت عندما نشر أن التجسس شمل أيضا الدول الأخرى بما فيها الدول الحليفة بما فيها قيادات هذه الدول. وبالمناسبة فإن التجسس على الحلفاء ليس أمرا غريبا، وحتى عام 1971 كان هناك داخل وكالة المخابرات المركزية الأميركية قسم متخصص بالتجسس على المملكة المتحدة، ولكن القسم جرى إلغاؤه، ولم يكن يعني ذلك توقف التجسس وإنما تغير أساليبه وربما أيضا شروطه بين البلدان المتحالفة. الآن أصبح على أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية أن تغضب للتجسس على تليفونها الخاص، وأن تتوجه مع فرنسا إلى الولايات المتحدة بطلب فتح مفاوضات مباشرة للتعامل مع هذا الموضوع الحيوي. بعض الدول الأوروبية الأخرى كانت أشد غضبا فطرحت على دول الاتحاد الأوروبي وقف مفاوضات خاصة بالتجارة بين جانبي المحيط الأطلسي. هنا فإن الغضب الأوروبي ربما يتعدى التجسس إلى الحقائق الموضوعية التي تقف وراءه، وهي أن الولايات المتحدة تكاد تحتكر قيادة الثورة الصناعية الثالثة بما فيها من أقمار صناعية كثيفة قادرة على التجسس والتحكم في الاتصالات العالمية. والحقيقة هي أنه لا يوجد مقابل عالمي آخر لشركات «أبل» و«مايكروسوفت» و«غوغل» و«ياهو» وغيرها ممن يتحكمون في محركات الاتصالات العالمية كلها أو أغلبها بعد أن جرت إزاحة «نوكيا» و«سوني»، وهي من وفرة أرباحها قادرة دوما على التجديد والاختراع والاستحواذ على الشركات الأوروبية الأقل قدرة.

المسألة هنا ليست أن دول الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في حلف الناتو على وشك فض الشراكة مع الولايات المتحدة، ولكن المؤكد أن السيادة الوطنية لهذه الدول أصبحت واقعة في اختبار كبير، ولا يوجد لدى الولايات المتحدة ما يساعدها على التعامل مع الواقع التكنولوجي الذي توحش عالميا إلى الدرجة التي ربما سوف يستحيل معها التحكم فيه، ولا يبدو أن إدارتها لديها القدرة على كبح جماح ما وصلت إليه أجهزة تجسسها من تطور لا يصيب الأعداء فقط، وإنما يصيب الأصدقاء أيضا. ذات المسألة ظهرت عندما قام رئيس الوزراء الباكستاني نزار شريف بزيارة واشنطن، ورغم أن جعبة الرجل حملت الكثير، لكن واحدا من ملفاته الرئيسة كان الضربات التي توجهها طائرات «بريداتور» من دون طيار الأميركية إلى قواعد إرهابية في باكستان وحدودها مع أفغانستان، ولكنها تصيب المدنيين أيضا مما تسبب في حرج بالغ للحكومة الباكستانية تجاه مواطنيها، وعدم قدرتها على الدفاع عن حلفها مع أميركا في وقت تقوم فيه هذه الأخيرة باختراق سيادتها عندما يعن لها ذلك.

مرة أخرى، فإن الحلف الباكستاني - الأميركي ليس بطريقه إلى الاختفاء، فهناك من المصالح ما هو أكثر من ضربات طائرات من دون طيار، ولكن علاقات الدول درجات، والتحالفات أنواع، وعندما تبدأ الثقة في الروابط تتأرجح، فإنه لا يمضي وقت طويل إلا ويصبح على الدول أن تتخذ قرارات خطيرة. بعض من هذا ظهر في علاقة المملكة العربية السعودية بواشنطن، وهي علاقة وثيقة واستراتيجية منذ لقاء قادة البلدين في قناة السويس عام 1944 عند نهاية الحرب العالمية الثانية، ودعمها موقف البلدين من الشيوعية والحرب الباردة ثم الوقوف المشترك في مواجهة الغزو العراقي للكويت، والقلاقل والفوضى التي تذيعها إيران في المنطقة. وشهدت الأيام الماضية تغيرا في هذه العلاقة مع الموقف الشجاع الذي اتخذته المملكة عندما قررت عدم قبول عضوية مجلس الأمن. لم تكن المملكة على استعداد لقبول مهزلة سياسية يكون فيها مجلس الأمن غطاء لذبح الشعب السوري، ودفن القضية الفلسطينية، والتواطؤ مع جماعات إرهابية ضد المصالح المصرية، والتواطؤ مع طهران على حساب المصالح العربية. ليس بمثل هذه الطريقة تجري التحالفات الدولية، هكذا كان القول والموقف السعودي الذي قادت إليه سياسات أوباما المتضاربة والعاجزة عن اتخاذ مواقف يستطيع الحلفاء التفاعل والتجاوب معها.