كلا.. تركيا لم تتجاهل الغرب

TT

ما نوع المكان الذي سيصبح عليه العالم إذا ما كانت تركيا، المدخل إلى الشرق الأوسط ونقطة الالتقاء بين أوروبا وآسيا، تجسيدا لليمين المتطرف من خلال استراتيجية تستند إلى العنف، أو لو كانت قد انحازت إلى معاهدة وارسو السابقة؟ هل تساءلت من قبل على الإطلاق ما الذي قد تسفر عنه سياسات الشرق الأوسط التي يتبناها العالم العربي أو أميركا أو أوروبا أو إسرائيل؟

دعوني أعرض الصورة بشكل حي لكم؛ في تلك الحالة الراهنة، سيكون لا يزال لدى الغرب أصدقاء في الشرق الأوسط، مثل الأردن، لكنني أشك فيما إذا كان لديه دولة كانت معقلا ونقطة محورية لكافة صنوف العلاقات الاستراتيجية بين العالمين العربي والغربي في الشرق الأوسط. تتمتع تركيا بميزتين تجعلانها بمعزل عن الدول الإسلامية «الصديقة» الأخرى في الشرق الأوسط؛ الأولى موقعها الاستراتيجي، والثانية نظامها الديمقراطي. ولهذا، توجد استراتيجية مهمة في السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية التي تعود إلى 11 عاما مضى في تركيا: تصفير المشكلات مع دول الجوار. كان البدء بتنفيذ تلك الاستراتيجية بمثابة نجاح، على الأقل حتى اندلاع موجة الربيع العربي. مما لا شك فيه أن تركيا ارتكبت أخطاء في سياستها، لكن سيكون ضربا من الحماقة أن نلقي اللوم بأكمله على باب تركيا. فقط الأشخاص غير الواعين بسياسة الشرق الأوسط التي تعمل من خلال العنف، هم من يمكن أن يزعمون ذلك.

لقد كان توقيت المزاعم المتعلقة بهاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركي، والتي دخلت الأجندة حينما آثرت تركيا الصين على رايثيون بالولايات المتحدة لإنشاء نظام دفاعي صاروخي بعيد المدى - وهو شيء طالما سعت إليه للإضافة إلى مستودع أسلحتها - مثار جدل هائل. لقد مضى الغرب منذ وقت طويل في انتقاد السياسة الخارجية لتركيا، ورغبت عدة أسماء ذات نفوذ في المضي قدما في ذلك؛ مثلما ذكرت في مقال الأسبوع الماضي، لم يكن ذلك يستهدف رئيس الوزراء أردوغان فحسب، بل أيضا الرئيس أوباما.

جاءت الخطوة المتعلقة بتركيا من الأسماء الأميركية التي نحن بصددها هذا الأسبوع. فقد منح دبلوماسيان من مركز السياسة المؤيد من الحزبين، والذي أنشأته شخصيات سياسية سابقة في الولايات المتحدة، وظيفة فحص آخر صورة للسياسة الأميركية إزاء تركيا. يقدم التقرير، الذي يحمل عنوان «من الخطاب إلى سياسة الولايات المتحدة / تركيا الخاصة بإعادة تشكيل الحقيقة» معلومات مفادها أن تركيا، بسياستها الممثلة في «تصفير المشكلات مع دول الجوار»، دولة مثيرة للمشكلات وتزعم أنها تعزل أوروبا والولايات المتحدة عنها. وهي تنتقد السياسة التركية لأوباما بشكل غير مباشر. يتضمن التقرير بعض النقاط الصحيحة، لكن السؤال هو: هل تجاهلت تركيا الغرب بحق؟ كلا. من الصحيح أنه مع تغيير الحكومة في عام 2002، اقتربت تركيا من الشرق الأوسط والمجتمعات العربية، بل وحتى من أفريقيا. كان ذلك على أية حال شيئا يجب حدوثه من وجهة نظر تركيا. لم يكن أجدادنا، العثمانيون، بالطبع من دون أخطاء، ولكن تركيا كانت بحاجة للحفاظ على الإرث القوي لهذه الإمبراطورية التي جمعت ديانات وجماعات عرقية مختلفة تحت رابطة الأخوة. كيف كانت تركيا التي قد نسيت أننا عشنا من قبل مع العرب والإيرانيين ضمن الحدود نفسها، وأننا ما زلنا نستخدم الأدب العربي والفارسي، من المفترض أن تضفي روحا من الأخوة على الشرق الأوسط؟

بالطبع، كان لزاما على تركيا أن تكسب ود الشرق الأوسط، لكن ذلك لم يعنِ مطلقا أن تدير ظهرها للغرب. بوصفها عضوا في حلف الناتو، دائما ما عملت تركيا مع الولايات المتحدة وأوروبا في سياستها الخاصة بالشرق الأوسط. مثل العقد الماضي أكثر سنوات نشاط تركيا في عرضها الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، ودائما ما هدفت عملية إرساء الديمقراطية إلى الانسجام مع الديمقراطية الأوروبية. قد يكون لتركيا آراء وسياسات متباينة تجاه دول جوارها الشرق أوسطية، لكن هذا لم يعن مطلقا أنها قد تجاهلت آراء دول الشرق الأوسط.

علاوة على ذلك، فإنه على الرغم من أن سياسة تركيا بشأن سوريا ليست متوازنة مع سياسة الغرب، فنحن بحاجة لإدراك أن هذا قد أدى إلى نتائج هائلة بالنسبة للغرب.

صرح ممثلو المجلس الوطني السوري، الذين كانوا في حالة من عدم اليقين، والشك إزاء حضور مؤتمر جنيف الثاني، بشكل واضح قائلين: «سوف نأتي إلى جنيف في حالة حضور تركيا والسعودية وقطر هناك، وفي حالة كون تركيا ضامنا».

أما عن المشكلة مع الصواريخ، فإن الاتفاق مع الصين يستند إلى مناقصة. بالطبع، كانت الفائدة التي ستجنيها الصين من بيع التكنولوجيا بنفس درجة أهمية السعر لفوزها بالعقد. لقد رغبت تركيا منذ فترة طويلة في امتلاك تلك التكنولوجيا: التردد من جانب الولايات المتحدة وأوروبا في مجاراة ذلك كان السبب الرئيس لفشلها. في أي حدث، لا يشكل تمتع تركيا بعلاقات جيدة مع دول مجموعة شانغهاي مثل الصين تهديدا، بل يجب اعتباره علامة على الوحدة والاندماج.

وعلى غرار كتاب هذا التقرير، فإن بعض المحافظين الجدد لهم جذور راسخة في الماضي. إنهم يرغبون في العمل وفقا للصورة القديمة المألوفة للشرق الأوسط وإحداث انقسامات على طول خطي الأصدقاء والأعداء؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن العالم قد تغير. ليس ثمة حاجة لأن نكون أصدقاء مع البعض وأعداء مع البعض الآخر. لا يتعين على تركيا أن تتجاهل الغرب لتتحول إلى الشرق الأوسط. يمكن رؤية ذلك بشكل أكثر وضوحا بالنظر إلى برنامج الحكومة التركية للشهرين المقبلين:

ومن بين هؤلاء الذين سيزورون تركيا هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي ومحمد ظريف وزير الخارجية الإيراني والإبراهيمي، ممثل الأمم المتحدة، ووزراء خارجية بريطانيا وبلغاريا وبيلاروسيا ورئيس أذربيجان. وسوف يزور وزير الخارجية داود أوغلو سلوفاكيا والمجر وبورما والهند والولايات المتحدة وروسيا. فضلا عن ذلك، فسوف يحضر رؤساء وزراء عشر دول افتتاح «مرمرة»، أضخم مشروع في إسطنبول، في نوفمبر (تشرين الثاني) . من المقرر أن يبدأ أردوغان رحلة إلى أوروبا، ولدى عودته، سيرحب بزيارة ملك النرويج إلى أنقرة. وسوف يأتي الرئيس الفرنسي هولاند إلى تركيا في يناير (كانون الثاني)، ومن المقرر أن يعقد مؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي «إيسداك» يوم 20 نوفمبر.

كذلك تحمل هذه كلمات السفير الفلسطيني لدى تركيا، نبيل معروف، أهمية؛ إذ قال «لا نرغب في أن تكون تركيا دولة عربية أخرى. نريد تركيا غربية». هذا صحيح: إن قيام تركيا من قلب الشرق الأوسط، ولكن موجهة للغرب سيكون عنصر مصالحة ووحدة بالنسبة لكل من الغرب والشرق الأوسط. ولهذا، أصبحت تركيا تنحو بدرجة أكبر إلى الطابع الأوروبي في نظامها الديمقراطي وشعبها وثقافتها وقوانينها خلال العقد الماضي؛ ولكن في غضون قيامها بهذا، لم تنس أنها جزء وعنصر موحد بالشرق الأوسط. يجب ألا ننسى أن تركيا تضم الشرق الأوسط والغرب. بالطبع، لا تخلو تركيا من أخطاء، لكنها تجاهد من أجل إرساء المفاهيم الخمسة للحرية والديمقراطية التي نراها في الغرب، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، في الشرق الأوسط، ومن ثم، فهي بحاجة لاحتضان الجميع. هذا ما يتطلبه كل من السلام والوحدة.