لا تخل عن الأسد ولا عن «النووي» ولا «تصفير» للخلافات!

TT

مطالبة وزير الخارجية الإيراني الأسبق، إبراهيم يزدي، الحكومة الإيرانية - وأغلب الظن أنه يقصد مرشد الثورة علي خامنئي - في حديث لـ«الشرق الأوسط» نشرته قبل أيام، بإقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي لإنقاذ سوريا من الآثار المدمرة للحرب المستعرة هناك، ودعوته إلى علاقات أوثق بين دول المنطقة وتحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية - تدلان على أن هناك توجها عاما ضد النهج الذي بقي متبعا في إيران منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979 وأدى إلى كل هذا التوتر مع معظم الدول العربية، وخاصة الدول الخليجية.

ولتأكيد كم أن إبراهيم يزدي، بكلامه هذا، يعبر عن موقف غالبية الإصلاحيين الإيرانيين، وربما عن غالبية الشعب الإيراني - لا بد من الإشارة إلى أنه بعد التحاقه بالخميني في فرنسا عشية انتصار الثورة الإسلامية في فبراير (شباط) عام 1979، كان يعد «جيفارا» هذه الثورة، وأنه بعدما أصبح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة مهدي بازركان، التي استقال منها بعد نحو ثمانية أشهر احتجاجا على احتجاز الرهائن الأميركيين، عنوان التوجهات المدنية والليبرالية وأيضا العلمانية وكان قد شكل لهذه الغاية تنظيما سياسيا، تم حظره لاحقا، أطلق عليه اسم «حركة الحرية».

والسؤال هنا هو: هل يا ترى القوى الإيرانية المنتقدة، التي على رأسها، وفي مقدمتها، الولي الفقيه علي خامنئي، وتضم، بالإضافة إلى حراس الثورة والقطاع الأوسع من المعممين المشددين، ما يسمى «البورجوازية» الانتهازية والطفيلية التي ورثت «البازار» والرأسمالية الناشئة التي كانت تعاونت مع الحركة الإصلاحية التي كان قام بها في بدايات خمسينات القرن الماضي محمد مصدق - ستسمع إلى هذا النداء الذي أطلقه إبراهيم يزدي والذي تشير التقديرات إلى أن غالبية الشعب الإيراني، بعد كل هذه التجربة المريرة الطويلة منذ عام 1979 وحتى الآن، تدعمه وتؤيده وتعمل من أجله...؟!

حسب تصريحات أول رئيس للجمهورية الإيرانية أبو الحسن بني صدر، الذي انتهى هاربا ولاجئا سياسيا في باريس بعدما احتل هذا الموقع، الذي من الممكن أن يعني شيئا بوجود الإمام الخميني ومجموعة المعممين المحيطين به، لفترة قصيرة امتدت من الرابع من فبراير عام 1980 وحتى الحادي والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1981 - فإنه من غير الممكن أن تغير إيران اتجاهاتها وتوجهاتها الإقليمية والدولية ما دامت محكومة بهذا التحالف الذي يجمع الولي الفقيه علي خامنئي، والمتشددين الدينيين، وحراس الثورة، والفئة التي نهبت - ولا تزال تنهب - أموال الشعب الإيراني وباتت تشكل طبقة ثرية، من مصلحتها أن يبقى هذا النظام كما كان وكما هو الآن وأن يستمر في سياساته الحالية وفي مواقفه تجاه دول الإقليم وتجاه العالم كله.

وهنا، وخلافا لما يعتقد البعض، فإن انفتاح الولايات المتحدة وعموم الدول الغربية الأوروبية الفاعلة، وأولاها بريطانيا، سيعزز تمسك نظام الملالي بتدخل إيران السافر في بعض الدول العربية: العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان ومصر، وبانتهاجها هذه السياسات الحمقاء في دول هذه المنطقة، فهؤلاء فهموا ما بادرت إليه واشنطن ولندن على أنه تسليم بالأمر الواقع وعلى أنه استسلام للإيرانيين ورضوخ لإرادة الولي الفقيه، وذلك مع أن كل هذا قد جرى تبريره بما كان حسن روحاني قد أعلنه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأخيرة الذي ثبت، وقبل أن يصيح الديك كما يقال، أنه مجرد علاقات عامة، وأنه لا رأي إلا رأي علي خامنئي وحراس الثورة.

وهكذا، فإنه ضرب من الوهم أن يسود اعتقاد لدى أوساط إدارة باراك أوباما وأوساط الدوائر الأوروبية الحاكمة وأوساط بعض العرب الذين يمارسون السياسة على طريقة «التغميس خارج الصحن»، أن هذا النظام الإيراني سيتخلى عن مشروعه النووي وعن تدخله السافر في شؤون الكثير من الدول برداء طائفي حقير وبدوافع مذهبية بغيضة؛ فهاتان قضيتان تتعلقان بوجوده وببقاء هيمنة وسطوة الأكثر تشددا فيه. ويقينا، إنه إذا تخلى خامنئي ومن معه من الذين بقوا يحكمون إيران بهذه العقلية منذ عام 1979 وحتى الآن - فإنه سيجد نفسه بلا لقب الولي الفقيه، وأن «الملالي» الذين وصلوا إلى الحكم بعد لحظة، بقوا يطاردونها لحقبة طويلة، سيحصل معهم ما حصل مع الإخوان المسلمين في مصر وما حصل بالنسبة لتجارب كثيرة في هذا النمط الذي سير على نحو معاكس لحركة التاريخ.

لقد بادرت إيران «الثورة الخمينية» إلى إشهار برنامجها النووي، وصرف ما يقدر بأكثر من مائة مليار دولار عليه حتى الآن، باعتباره مشروعا قوميا يجب، وبالضرورة، أن يلتف الإيرانيون حوله ويجب أن ينسوا وأن ينسيهم تعارضاتهم وتناقضاتهم مع النظام. وحقيقة، إن هذا هو ما حصل، وإن المعارضة الإصلاحية وجدت نفسها غير قادرة على المزيد من التصعيد مع المجموعات الحاكمة، التي على رأسها علي خامنئي والكثير من «آيات الله» وآلاف المعممين ومع هؤلاء جميعا حراس الثورة وشرائح «الرأسمالية» المشوهة الجشعة. وكما أن أنظمة الانقلابات العسكرية العربية قد رفعت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» من قبيل إرهاب شعوبهم وتكميم أفواه المعارضين لها - فإن نظام الملالي قد رفع شعار أنه لا إصلاح ولا تغيير ما دامت المعركة «النووية» محتدمة، وما دام المفترض أن يلتف الإيرانيون كلهم حول هذا المشروع القومي المصيري!

ثم وإن المعروف أن الثورة الخمينية، وفور انتصارها في فبراير عام 1979، قد بادرت إلى رفع شعار تحرير الأماكن المقدسة، والمقصود هو إطاحة نظام حزب البعث، ليس لأنه اشتراكي وعلماني وقوي وعربي، بل لأنه سني، ولأنه يجب تخليص النجف وكربلاء وأيضا سامراء، حيث مرقدا الإمامين العسكريين، من السيطرة السنية. وحقيقة، إن هذا هو الدافع الحقيقي الذي اعتبره الإمام الخميني دافعا عقائديا للحرب العراقية - الإيرانية التي أكلت الأخضر واليابس والتي استمرت ثمانية أعوام وتركت هذا الجرح الراعف الذي يعانيه العراق الآن وتعانيه هذه المنطقة بمعظم دولها العربية.

ولهذا، فإنه لا يمكن، وعلى الإطلاق، أن يستجيب علي خامنئي لدعوة إبراهيم يزدي التي طالب فيها الحكومة الإيرانية، والمقصود هو الولي الفقيه ومرشد الثورة تحديدا، بإقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي، وباستخدام نفوذها لإنقاذ سوريا من الآثار المدمرة للحرب المستعرة هناك، فهذا بالنسبة للقابضين على الحكم في طهران مسألة عقائدية لا يجوز التخلي عنها والمس بها. وحقيقة، إن هذا النظام الخميني يعرف معرفة أكيدة أنه إذا تخلى عن النظام السوري، وإذا تخلى عن حزب الله، وتخلى عن مقام السيدة زينب وقبر حجر بن عدي، وإذا أوقف تدخله السافر في الشؤون الداخلية العراقية والشؤون الداخلية اليمنية وشؤون مصر والبحرين - فإنه سيفقد هذا الدافع العقائدي، وبالتالي سيفقد مبرر وجوده ومبرر تطلعاته التوسعية في كل هذه المنطقة الشرق أوسطية.

إنه لا يمكن أن يأخذ النظام الإيراني بنظرية وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو القائلة بضرورة «تصفير الخلافات»؛ فهو يعتبر تدخله في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي البحرين وفي اليمن يشكل دعوة لمهمة تاريخية عقائدية، وإنه إن تخلى عن هذه المهمة فإنه سيخسر قيادته الطائفية للشيعة وبالتالي سيفقد مبرر التمدد في هذه المنطقة العربية لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة التي يعتبر نفسه وريثا شرعيا لها.. ولذلك، فإنه يجب إدراك أن هذا النظام لا يمكن أن يتخلى عن مشروعه النووي ولا عن هذا الدور الطائفي والمذهبي الذي يلعبه في المنطقة؛ فهذان أمران يتعلقان بمبرر وجوده وبما يعتبر رسالته التاريخية والأبدية.