إصلاح الغد يوجب التصالح مع الأمس

TT

استكمالا لمقالة الخميس الماضي (ماذا يريد عرب الغد؟) يجب القول: إنه بلا تصالح مع الأمس لا يمكن إصلاح الغد. كيف تستطيع مجتمعات عربية دخلت في حروب داخلية أهلية، وأخرى مع جيران لها، بناء علاقات مستقبلية أفضل بين قياداتها الشابة المنتمية لأجيال الغد، إن ظل إرث العداوة ينتقل من جيل لآخر كأنما هو موروث جيني لا فكاك منه؟

نعم، معرفة كيف يفكر جيل الغد ضرورة لتحضيره كي يقود المستقبل على نحو أفضل مما حصل مع قيادة أغلب جيلنا لما انتهى إليه واقع معظمنا. لكن معرفة توجهات التفكير وأطيافه المتعددة، لن تكفي وحدها، بل لا بد أن يصاحبها توفير أجواء مصالحة بين جيل قيادات الغد وحاضرنا الذي سيشكل عما قريب أمسها، وإلا وجدت تلك القيادات نفسها محكومة بإرث العداوات ذاتها.

مثلا، كيف سيتمكن عراقيو الغد، الذين هم وهن بين العشرين والثلاثين من العمر الآن، من النهوض بعراق المستقبل (2020 - 2030) إن حملوا على كواهلهم وفي رؤوسهم الإرث السياسي والاجتماعي ذاته الذي يفعل فعله فيما نرى كل يوم، تقريبا، من مجازر عمليات الانتحار بتسمياتها المختلفة؟ هل يمكن تخيّل ليبيا 2020 تمضي نحو 2030 بثبات إنْ حكم مستقبلها إرث عداوات اليوم؟ والشيء ذاته ألا ينسحب على بقية المجتمعات العربية، حيثما وجد إرث يُحَكِّم ماضي العداوات بمسار الحاضر، ويريد فرض هيمنته على رسم المستقبل؟

السؤال ذاته ينسحب على كل المجتمعات العربية التي شهدت منذ منتصف القرن الماضي، وما يزال بعضها يشهد الآن، عنفا سياسيا زعم مثيروه من الثوار، ومن نظَّروا لمراحله المختلفة، أنهم يريدون نقل المجتمع من التخلف إلى الوضع الأفضل، فأرجعوه سنين إلى الخلف.

يقول المثل الإنجليزي:

DO NOT LET THE PAST DECIDE THE FUTURE

لا تدع الماضي يقرر المستقبل. حقا، ولا شك أن تهيئة ظروف أفضل لشباب اليوم كي يتمكنوا من الأداء الأفضل في المستقبل، تفرض ضرورة التحرر من سلبيات الماضي وتعقيداته، إنْ على المستوى الفردي أو المجتمعي، فمن تعرض لحادث غرق ونجا، ثم خاف البحر لن يعرف العوم مطلقا، والمجتمع الذي يخوض حربا مع ذاته، أو مع جاره، لن يتقدم على طريق المصالحة مع النفس ومع الغير، طالما ظل بعضه يتوجس خيفة من بعضه، وكلا البعضين يشك في الآخرين، أو يقيم تحالفاته معهم وفق المبدأ الانتهازي «عدو عدوي صديقي»، الذي ينتهي في حالات كثيرة إلى كوارث.

بيد أن مصالحة الحاضر مع إرث الأمس ليست مجرد اتفاقيات بين دول، أو بين طوائف وفئات داخل المجتمع الواحد، بل هي تبدأ بتطوير مفاهيم التربية داخل البيوت، لتمر بمناهج المدرسة والعلاقات داخلها، بين الطلاب أنفسهم وبينهم وبين هيئات التدريس، وكذلك الحال في الجامعات والمعاهد، وصولا إلى مفاهيم العلاقة داخل مؤسسات العمل بقطاعاته المختلفة.

وفي السياق ذاته، يمكن القول: إنه طالما بقي السياسي في العالم العربي غير مستعد لتحمل أي درجة من النقد، فلن يكون بالوسع تحقيق مصالحة مع الأمس، ولا ضمان سلوك طريق آمن نحو المستقبل. بالطبع ثمة فرق بين انتقاد هادئ وموضوعي، وبين هجاء (satire) حاد في سخريته، وهو ما لا يطيقه أحد بين الساسة في أي مكان. مساء السبت قبل الماضي، 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، شاهدت سير ديفيد فروست، يقدم تحقيقا توثيقيا مهما حول فن الهجاء خلال الخمسين سنة الماضية، تحدث خلاله عدد من كبار المبدعين في هذا الحقل، ومنهم جون ستيوارت صاحب البرنامج اليومي الذي استوحى باسم يوسف منه فكرة برنامجه، ولاحظت أن جميعهم أجمعوا على نفور السياسيين من أي هجاء ساخر لهم.

وبالتأكيد، لا يختلف الأمر في العالم العربي. بل ها هو المشهد يتكرر من جديد، مع عودة برنامج الطبيب الشاب وما تردد عن احتمال ألا يتحمل الوضع الجديد في مصر لا سخرية باسم يوسف ولا أي انتقاد من غيره. كثيرون، وأنا منهم، يأملون ألا يحدث هذا، حتى لا يضيع الأمل في قيادات شابة تضع أساس مستقبل أفضل.

[email protected]