أم العجايب

TT

هذه رسالة مني إلى محبوب الملايين مع الاعتذار للموسيقار محمد عبد الوهاب الذي غناها ولحنها:

قلبي بيقول لي كلام وانت بتقول لي كلام

وعنية شايفة كلام والناس بيقولوا كلام

احترت أصدّق مين واحترت أكذّب مين

قلبي بيقول لي

على الرغم مني وبحكم الظروف الصحية، غبت عن مصر لأكثر من عام، ثم عدت بقلب عاشق مشتاق، فوجدت حبيبتي وقد شاخت بدل العام الواحد 10 أعوام أو 20 وربما 50 عاما.. لا أحد يبتسم، ولا أحد يزور أو يزار خوفا من الزحام الخانق و«حزق التجول» و«الدبدبات في الشارع»، والكلام ليس لي بل للفنان عمرو عبد الجليل في فيلم «حين ميسرة».

لا مجلس يجمعني بأهلي إلا ويتفجر الجدل. الأفواه ترسل والآذان لا تستقبل، والعقول توقفت عند نقطة لا يمكن زحزحتها.. الأسرة الواحدة انقسمت، والخلاف يصل أحيانا إلى حد الصياح أو حتى البكاء.

بصحبتي صديقة شابة تسألني ببراءة: لماذا تكتب أسماء المحلات بلغات أجنبية بدلا من لغة البلد؟ أصمت لأنه لا جواب منصفا لديّ.. فلقد أفقدنا القهر والكبت والزحام كثيرا من الثقة في الأوطان حتى أصبحت كل أسرة تطمح إلى أن ينتمي الأبناء والبنات إلى ثقافة أوروبية مصدرها جامعة أميركية أو ألمانية أو مدرسة فرنسية. ولذلك أصبحت العبارات الأجنبية جواز سفر إلى نوع من الرقي الوهمي. وانسحب هذا الميل من الطبقة الوسطى إلى الطبقات الأدنى إلى الدرجة التي جعلت أحد سكان الطريق الصحراوي الممتد بين القاهرة والإسكندرية يبني لنفسه «تعريشة» لبيع الشاي والقهوة ووضع عليها لافتة مكتوبا عليها «كوفي شوب». في حي الزمالك مقصف يؤمه الشباب سماه صاحبه «ليفت بانك» تيمنا بضفة نهر السين اليسارية. المهم هو أن التسمية تؤمن لصاحب المقصف أن يتقاضي من زبائنه ما يقارب 20 جنيها ثمنا لزجاجة ماء.

لماذا انقسمت الأسرة الواحدة.. لماذا يتمسك كل قسم برؤية لا تتزحزح؟ كل رؤية فيها ما يكفيها من الصواب. من يعانون من الزحام كثر، ولا يسعني إلا أن أتعاطف معهم حين تحمر الوجوه وتنتفخ الأوداج وتنفر العروق وترتفع الأصوات: حين جاء مبارك لحكم مصر كان السكان 40 مليونا.. بعد 30 عاما صار السكان 90 مليونا، وبعد نصف قرن آخر سوف يصبحون 200 مليون. البشر يزدادون، والسيارات أيضا، والمحاصيل الزراعية تقل. وفي غياب وسائل نقل عام تسعف البشر، تزداد الشوارع ازدحاما ويزداد الناس يأسا. وحين سئل مبارك عن زيادة السكان، دهش كثيرا وقال: «ماذا تريدونني أن أفعل؟ هل أبني لكم طابقا ثانيا؟»، ولم يأتِ من خلفوه بجديد.

أقسم لي رب أسرة يعمل 12 ساعة يوميا لتوفير نفقات بيته وأولاده الثلاثة، على أنه لم يشترِ لحما لبيته قرابة ثلاثة أشهر نظرا لغلو الأسعار. والغريب هو أن يعتبره أي عاطل من المحظوظين لأنه يعمل.

وصاح في وجهي آخر لأنني دافعت عن شباب حملة «تمرد»، وقال إن أعضاء «تمرد» لم يستشيروا سكان العشوائيات عن العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وإنهم لو فعلوا لقوبل سؤالهم بسخرية مهينة لأن الثورة هي ثورة الطبقة المتوسطة التي قامت بلا خطة للإصلاح ولا فهم لديناميكيات المجتمع الذي تشكل العشوائيات خمسيه. سكان العشوائيات مغيبون ولا تعنيهم لجنة الخمسين في قليل أو كثير.. ما يهمهم حقا هو الماء النظيف والمسكن الآدمي وما يقيم الأود..

وصاحت امرأة أمضت في إحدى المؤسسات الحكومية التي تعنى بالشؤون القانونية للمواطنين، بأنها أمضت أربع ساعات من الجحيم في غرفة لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار مربعة اكتظ فيها مئات المواطنين للحصول على ورقة رسمية عليها «ختم النسر». ورغم تقديم كل المستندات المطلوبة، فإن الموظف المختص ظل يرسلها من شباك إلى آخر ليخبرها الموظف الآخر بأن تعود إلى الشباك الأول فتجد نفسها في آخر الصف.. وبعد ثلاث ساعات نظرت حولها فلم تجد أثرا لجهاز كومبيوتر واحد كان يمكن أن يوفر على الناس مذلة الوقوع بين براثن الموظف إياه الذي افتضح أمره حين فقدت إحدى المنتظرات أعصابها وهي ترى الموظف يدفع بالطلب الذي تنتظره إلى أسفل تفضيلا لطلب آخر، فصاحت تسأله: ماذا تريد أكثر من المائة جنيه التي دفعتها لك؟

أحب مصر ولا أرضى بغيرها وطنا.. وفي لحظات اليأس يخيل إليّ أن «أم العجايب» بحاجة إلى معجزة إلهية.. وليس هذا على الله ببعيد.

تجدد في قلبي الأمل حين التقيت شابا في الحادية والثلاثين.. هذا الشاب كتب سيناريو لفيلم قصير أبطاله خمسة يمثلون الانقسامات التي ابتليت بها مصر اليوم.. ويتراشق أربعة منهم بالاتهامات رغم أنهم أموات يلتقون بعد الموت، ومن خلال تراشقهم تنجلي حالة المجتمع المصري، إلى أن تتدخل الشخصية الخامسة وهي امرأة استشهد ولدها في مظاهرة، وهي شخصية ترمز إلى مصر الأم.. تسكتهم الأم حين تسألهم إن كانوا يأملون في الانتصار على الموت والرجوع إلى الحياة، وبالطبع يطمع كل منهم في العودة، وتشترط الأم شرطين؛ الأول هو أن ينظر كل منهم في مرآة تحملها بين يديها، وحين ينظرون يكتشف كل منهم أنه هو الذي قتل الآخر.. اقتتلوا حتى مات كل منهم بيد الآخر.. ووسط ذهول الاكتشاف تنبئهم بالشرط الثاني وهي تشير إلى باب مغلق فتقول: لن يفوت أحدكم من هذا الباب، وهو باب الرجوع إلى الحياة، إلا إذا أمسك كل منكم بيد الآخر وتدلفون من الباب وأنتم مترابطون.