سوريا.. في مهب «المزاج» الأميركي

TT

إنصافا لمن انتفض وثار في «ربيع» العرب المخطوف وفي ذهنه أن إصلاح ما أفسده دهر الحكام المستبدين متاح لعطاري الداخل بمعزل عن طابخي العطور في الخارج وموزعيها، لا بد من العودة إلى دور الخارج في توجيه مسارات هذا «الربيع» إن لم يكن تحديده، كما في الحالة السورية.

إذا كان يصح انتقاد «معارضات» الداخل والخارج السورية على فشلها في توحيد صفوفها ومخططاتها يصح أيضا التشهير بتقصير الدول المناصرة لها في مجال تنسيق دعمها العسكري والسياسي للثورة وتأطير قنواته.

قد يعود عامل الضعف الرئيسي الذي تعاني منه المعارضات السورية إلى كونها خليطا سياسيا غير متجانس الرؤى وإن كان موحد الأهداف. ولكن إذا كانت فصائل المعارضة السورية معذورة في تبايناتها السياسية فلا عذر للدول الداعمة لها في التصرف كمجموعات متناقضة المصالح، بل متنافسة، في استراتيجياتها السورية.

ربما كان خطأ المعارضات السورية الأفدح تصورها أن ازدياد شراسة النظام في قمع الانتفاضة الشعبية، وتجاوزه «الخط الأحمر» الأميركي في زج ترسانته الكيماوية في مواجهتها، كفيلان بتكرار السيناريو الليبي في سوريا، أي دفع الغرب إلى تدخل عسكري مباشر ضد النظام.

ولكن هذا الاحتمال، وإن كان واردا مبدئيا، دونه الواقع الراهن للساحة الدولية، وتحديدا ذلك الخلل السياسي - أكثر منه عسكريا - في ميزان «الثقل الاستراتيجي والدبلوماسي» للاعبين الرئيسيين على هذه الساحة: روسيا والولايات المتحدة.

في عهد الرئيس فلاديمير بوتين انتقلت روسيا من دولة ماركسية محبطة في الشرق الأوسط إلى دولة شوفينية مقدامة تسعى لتعويض ماضيها السوفياتي الفاشل بممارسة دبلوماسية «إثبات» وجود راسخة في المنطقة، فيما تحولت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس باراك أوباما، من دولة عظمى توسعية إلى دولة تعالج جراح مغامراتها الشرق أوسطية وتسعى إلى «التكفير» عنها بانتهاج دبلوماسية «انسحابية» - كي لا نقول انهزامية - من المنطقة.

مأساة الثورة السورية قد تختصر في تزامن اندلاعها مع حالة تبدل الأدوار الشرق أوسطية بين القوتين العظميين، وهو تبدل يتجلى باطراد في مستوى ودرجة التزام الطرفين المباشر بالأزمة السورية.

واضح أن الدبلوماسية الأميركية تعيش - بعد «مغامرات» الرئيسين بوش الأب وبوش الابن في أفغانستان وباكستان والعراق - ردة فعل انعزالية ظاهرة. ومن السهل تلمس «شعبية» هذا التيار على ما عداه من طروحات «تدخلية» أخرى لا في الكونغرس فحسب بل في الشارع الأميركي أيضا. ولا يقتصر هذا «المزاج الانعزالي» على الشارع الأميركي وحده؛ فموقف مجلس العموم البريطاني - وعمليا معظم العواصم الأوروبية - من موضوع التدخل المباشر في سوريا عكس تعاطفا ملموسا مع المشاعر الانعزالية المستجدة على الرأي العام الغربي إجمالا.

ولكن إذا كان تجنب التدخل العسكري المباشر هو شعار المرحلة في الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، فإن السؤال يبقى: لماذا لا توظف إدارة الرئيس أوباما تدخلها «غير المباشر» - أو غير العسكري - في القضية السورية لصالح الانتفاضة الشعبية إذا كانت لا تزال حريصة على مبادئ الديمقراطية الأميركية؟

وتحديدا كيف تفسر الإدارة الأميركية تبنيها لمبادرات دبلوماسية صب معظمها في خانة إطالة عمر النظام السوري عوض اختصار معاناة شعبه؟

على سبيل المثال لا الحصر، لمصلحة من جاءت مطالبتها دول الجوار السوري المؤيدة للمعارضة بالحد من «نوعية» دعمها اللوجيستي للثوار (بحجة إقناع النظام السوري بحضور مؤتمر «جنيف 1») ومن بعدها تحويل العنوان الرئيسي لتعاملها مع الأزمة السورية من قضية انتفاضة شعبية على حكم مستبد إلى قضية تخلص من ترسانة النظام الكيماوية وفي مهلة زمنية كانت كافية لتشجيع الرئيس بشار الأسد على إعلان رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثالثة؟

دبلوماسية اختصار أزمة سوريا بترسانتها الكيماوية بدت بمثابة رسالة للثوار مفادها: قتل 1400 مواطن سوري بسلاح كيماوي «جريمة لا تغتفر»، أما قتل 120 ألفا بسلاح تقليدي «فمسألة فيها نظر».

عمليا، آخر ما تبقى من إيجابيات في موقف واشنطن الدبلوماسي من النزاع السوري هو إصرارها على أن لا دور للرئيس بشار الأسد في سوريا الغد.. فهل يصمد هذا الموقف إلى موعد انعقاد «جنيف 2»؟