الديمقراطية باعتبارها غنيمة!!

TT

كان الصديق الفرنسي يستمع إلى الجدل الدائر بيننا على الطريقة العربية حول مفهوم الديمقراطية وأسسها ومتطلباتها وتحدياتها ومعوقاتها، وكانت أصواتنا ترتفع وتحتد إلى درجة الغضب والضرب على الطاولة، فطلب مني أن أشرح له ما كان يدور في هذا الحوار، فاختصرت له الجدل في جملتين: «هنالك اتجاهان في موضوع الديمقراطية: اتجاه يختصرها في التداول السلمي على السلطة عبر صندوق الاقتراع، وأنه بالتالي بالإمكان تحقيق الانتقال الديمقراطي فورا إذا ما توافرت الإرادة السياسية، واتجاه ثان يعتبرها ثقافة مجتمعية وسياسية تتطلب وقتا طويلا ليتشربها المجتمع وهي لذلك لا يمكن أن تكون قفزة في الهواء.

استأذن الصديق في طلب الكلمة معلقا على الخلاف الدائر في كلمات مختصرة: إن الديمقراطية في تقديري وبكل بساطة هي تطبيق القانون، حتى وإن كان هذا القانون مجحفا ويحتاج إلى تغيير. ومتى التزم المجتمع بذلك أمكن تحقيق كل شيء من خلال القانون بما في ذلك الانتقال الديمقراطي ذاته.

وعند التوقف عند هذا التعريف الموجز نجد أن الإشكالية الأساسية بالنسبة لموضوع الديمقراطية، سواء بالنسبة للدولة أو الأفراد أو الجماعات السياسية والحزبية، تكمن في موضوع تطبيق القانون، فكلما حدث انحراف في مجال تطبيق القانون، حدث التعدي على الديمقراطية، وبالتالي العودة إلى منطق ما قبل الدولة، لأن الدولة تعني بالضرورة تطبيق القانون.

لقد أصبح سائدا عندنا التعامل مع الديمقراطية تعاملا انتقائيا، لمجرد تحقيق مآرب ظرفية أو لتغطية الحقائق الملتبسة أصلا، أي اعتبار الديمقراطية مجرد لعبة عددية (شرعية الصندوق لمرة واحدة) أي غياب النزعة المبدئية، بما جعل منها مجرد لعبة مزادات أو غنيمة، في حين أن العالم المتقدم قد أجمع منذ قرون على أن الديمقراطية تحتاج إلى توفر عدة عوامل أساسية منها:

- إرساء دولة القانون والمؤسسات، حيث يأتي احترام القانون في مقدمة الحياة السياسية السليمة التي لا مجال فيها للتهاون أو التنازل أو التسامح مع الفوضى والعبث والتسيب، ودولة المؤسسات تعني بالضرورة مرور كل القضايا الأساسية عبر المؤسسات وحدها، وأن الذي يريد أن يغير التشريع أو يؤثر في السياسات عليه أن يعمل من داخل المؤسسات للتأثير عليها.

- إجماع السلطة والأحزاب والجماعات والجمعيات والشعب على حماية الديمقراطية والالتزام بالقانون، في جميع الأحوال. وعليه فإنه مثلما لا يجوز للسلطة أن تلجأ إلى تجاوز القانون في التعامل مع الناس، فالأحرى بالناس وبالمؤسسات ألا يتجاوزوا القانون.

- العامل الثالث: المساواة في تطبيق القانون، وهو أمر مشترك بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين هذه السلطات مجتمعة وبين الشعب بكل مكوناته وجماعاته وأحزابه وجمعياته، وهو ليس حكرا على أحد دون الآخر، لأنه لا حق دون واجب بالضرورة.

- الحفاظ على المكتسبات الأساسية للوطن، فلا يجوز لأحد أن يتجاوز في هذا المجال ولا يوجد أي مبرر يمكن أن يسمح لأحد أو جماعة أو حزب بالاعتداء على تلك المكتسبات والإضرار بأمن المواطنين والمقيمين وأملاكهم. ولذلك فإنه وفي غياب الشراكة الديمقراطية وتحمل القيادات الحزبية والدينية والمدنية مسؤولياتها الكاملة لحماية الديمقراطية والدفاع عنها، سواء ضد تجاوزات السلطة أو ضد تجاوزات الأفراد أو تجاوزات الجماعات، فإنه لن تكون هنالك ديمقراطية حقيقية على المدى البعيد، لأن الديمقراطية في بدايتها ونهايتها هي احترام للقانون.

إن الخطاب الآيديولوجي خطاب قوة، وحينما تتاح له الفرصة لا بد أن يسيطر ويهيمن على ما سواه، وهنا تحديدا تبرز أهمية الخطاب الفكري مجددا، ففكر الاختلاف الذي تكرست مقولاته في معظم المجتمعات الغربية هو الذي ينظم العلاقات التنافسية - الصراعية بين مختلف القوى الاجتماعية والآيديولوجية، وهنا يأتي دور القانون الذي ينظم العلاقات بين مختلف الأطراف المتصارعة بما يؤمن للمجتمع استقراره ويحفظ له وحدته على الرغم مما قد يعتريه من صراعات واختلافات، يجري حلها أو التعاطي معها في إطار القانون الذي يؤمن هذه الوظيفة الحيوية، خصوصا أن تجارب الحياة وأحداث التاريخ القاسية تؤكد بأن الصراعات غير المنظمة بقوانين تحقق مصالح الأغلبية في المجتمع تؤدي حتما إلى نتائج كارثية على المجتمع والدولة.

هكذا أصبحت القوانين الفاعلة في المؤسسات كافة مبنية صراحة أو ضمنا على حقوق تكفل لكل فرد ولكل فئة اجتماعية حرية التفكير والتعبير والتنظيم والعمل في إطار ديمقراطي سلمي، لا يستطيع أحد التنكر له أو الخروج عنه، إلا وأدانه القانون التعاقدي العام.

ومع ذلك توجد في البلدان ديمقراطية جماعات آيديولوجية متطرفة، باسم الدين أو باسم العرق أو باسم المعتقد السياسي، لكن هذه الجماعات تظل على الهامش الذي يسمح لها بالتعبير عن أفكارها كغيرها من التيارات والأحزاب، لكنها تظل واعية جيدا بهامشيتها، أما حينما يتبنى منطق العنف أو تمارسه في لحظة ما، فإن إيقافها عند حدها، تصبح مسؤولية القانون، وليس مسؤولية الجماعات الحزبية والسياسية والدينية الأخرى، لأن الديمقراطية تعني اقتناعا بجدواها ومحتواها، وقبولا بمتطلباتها ومقتضياتها، وليس القبول الشكلي بها شكلا، لتحقيق مكتسبات ظرفية، فالديمقراطية كمشروع متكامل يجب أن يتم غرسه في الواقع وسقايته ورعايته لينمو، أما الذهاب مع الديمقراطية إلى صناديق الاقتراع (استنادا إلى الكثرة العددية) ولمرة واحدة للحصول على غنيمة السلطة، فطريق لا يمكن إلا أن يعيد إنتاج الاستبداد!!

* كاتب وإعلامي من البحرين