رجل لن أنساه

TT

كثيرا ما سألوني من أثر عليّ من الكتاب. أجبتهم دوما: نعم، الجاحظ وبرنارد شو. من الغريب أني نسيت شخصا ثالثا، جاسم محمد الرجب معلم اللغة العربية في ثانوية الأعظمية. هو الذي غرس في نفسي روح العلمانية والتفكير العلمي. رآني أقرأ كتابا فسألني - كان كتابا للصاوي: «ليش يا ابني ليش؟! تضيع وقتك بمثل هالكتب! اقرأ حاجة بالإنجليزي. تمام، صعب عليك، ولكن حاول. بعدين تكتشف أنه صفحة واحدة من شكسبير تسوى كل ما عندنا من الكتب العربية!».

استغربت أن أسمع ذلك ممن وظيفته تدريس الأدب العربي. ولكنني اتبعت نصيحته. انتميت إلى المعهد الثقافي البريطاني وبذلت كل جهدي في إتقان اللغة الإنجليزية حتى وصلت هذه المرحلة بحيث أفهم أي شيء باللغة الإنجليزية أحسن من أي شيء كان يقوله بالعربية بعضهم.

نقلته وزارة المعارف للتدريس في كركوك، يدرس خليطا من العرب والكرد والتركمان. انبرى واحد منهم فقال أثناء الدرس إن ملا مصطفى بارزاني يملك دعا (تميمة) تحمي من يشدها على ذراعه من الرصاص. تطلق عليه ما تشاء من الرصاص ولا ينفذ به. عارضه الأستاذ جاسم وأفهمه أن كل قواعد الفيزياء والطبيعة تنقض ذلك. وهو شيء لا يتقبله العقل. بيد أن التلميذ أصر على رأيه وراح يستشهد بشتى الأمثلة مما سمعه. انقسم التلاميذ إلى من أيدوه ومن كذبوه، واحتدم النقاش بين الطرفين. تحمس التلميذ لرأيه فقال: «سآتي بنسخة من هذه التميمة من مدينة السليمانية وأشدها على يدي وحاولوا أن تطلقوا عليّ الرصاص». يا لها من محنة!

عبثا، حاول الأستاذ جاسم أن يثنيه عن عزمه. من أين له أن يتسبب في مقتل ابن الناس ويتحمل المسؤولية. وفي الوقت عينه، كان عازما على قتل هذه الخرافة وإقامة صرح العلم في الصف. بيد أن التلميذ أدرك حيرة أستاذه، فقال: «لا بأس. يمكن إجراء التجربة على دجاجة». صفق الجميع لهذا الاقتراح. عينوا يوما للذهاب في سفرة مدرسية لأحد البساتين المجاورة وإجراء التجربة فيها. ربطوا الدجاجة بجذع نخلة وشدوا التميمة على صدرها.

«ابني كاكا حما، خلي بالك زين من تضرب. إذا خطأت الهدف ونجت الدجاجة فكل أهل كركوك راح يصدقون بالخرافات ويسخفون العلم».

«لا تخف أستاذ. أنا سنتين كنت بيشمركة. قتلت عشرين جندي. تعصى عليّ هالدجاجة؟»

قال التلميذ وأطلق الرصاص ومزق الدجاجة شذرا مذرا. عاد جاسم الرجب وقد أقنع، بالتجربة لا بالكلام، تلاميذ المدرسة بجبروت العلم. ولربما ساهمت التجربة في هذه الروح العلمانية التي تميز الكرد وكردستان.

عاد أستاذي سعيدا راضيا لبيته فوجد الشرطة بانتظاره. اقتادوه مخفورا لبغداد بتهمة تدريب التلاميذ على حرب العصابات واستعمال الأسلحة النارية.