الاضطراب السياسي و«أسطورة» برنارد لويس!

TT

كان لأحداث المنطقة المتتابعة أكبر الدور في صناعة «وهم المخططات» التي يزعم البعض أنها تتداول في مراكز القرار العالمي لتقسيم بعض الدول في الشرق الأوسط، وآية ذلك عشرات المقاطع والأقصوصات التي يجري تناقلها عبر الإعلام السيال غير المنضبط أو الموثق، والتي تضخم مشاريع التقسيم واحتكار الثروات، ونهب البلدان، بل صنعت شخصيات باتت هي «أيقونة» الخطر، وعلت أصوات التهيئة نحو مراحل مختلفة تكون فيها المرحلة.. مرحلة «المواجهة» مع العالم.

كان للهجوم على النموذج الغربي أو «الأمركة» ألقه الساحر، وبخاصة حين يأخذ صيغة فلسفية مبهرة على النحو الذي فعله مطاع صفدي في كتابه من جزءين «نقد الشر المحض». وعلى الرغم من الجمال الذي اتخذته لغته ومنهجيته، فإن النتائج أسست لأنماط من الشيطنة، بينما يصر الراحل محمد أركون على استبدال المنهج «الفيلولوجي» الذي يمارس من خلاله برنارد لويس تنقيبه في التاريخ الإسلامي بالمفاهيم الحديثة الشغالة ومن أبرز أدواتها الأركيولوجيا، ذلك المفهوم الذي استوى نضجه في مشروع ميشال فوكو في التنقيب في التاريخ الغربي والسلطات المضمرة.

وبسبب من إشاعة مقتضبة تدّعي أن برنارد لويس، هذا الرجل، هو الراسم الوحيد لسياسات الولايات المتحدة، فإننا نستعيد المرض المتأزم، المنطلق من «فرعنة» الأشخاص، بحيث يختصر الفريق المبدع بسياساته أو الخلاق في تحديثاته بفرد واحد، ويصح هذا في المجال الفكري كما المجال السياسي، أو المجال الفني. ثمة هياج ضخم تجاه اسم «برنارد لويس» الذي يصفه أركون بـ«الثعلب» وكأنه الناوي والمخطط لتفتيت الدول العربية وتحويلها إلى دويلات تحلب ثرواتها الأمم من دون أن تستفيد منها. والذي نراه أن أحدا لم يظلم ولم يفتت المنطقة مثل الممارسات العربية، وآخرها الانقسامات الكبرى التي سببتها الدعوات الحالمة إلى قيم الحرية والديمقراطية، والتي لم تلد إلا مزيدا من الاستبداد والتراجع والانهيار.

بالتأكيد أن «الأفكار هي التي تحكم العالم» كما يقول الفيلسوف أوغست كونت في القرن التاسع عشر، وهي ليست بالضرورة الأفكار الخيّرة، أو المفاهيم الجذابة، كما هو حال الديمقراطية والحرية، فأميركا التي ضربت العراق في 2003 باسم الديمقراطية والحرية هي التي تصمت عن الذي يجري بسوريا في 2013.. وفي كلتا الحالتين كانت السياسة هي التي تمارس ضمن «أفكار» تدوّر المصالح وتكررها في مروحة الاقتصاد والسياسة والنفوذ في المناطق الحيوية.

يمكن الاستشهاد بالكثير من الأطروحات التي تبين أن التخطيط لا يتم عبر شخص بالنسبة للقرارات الأميركية أو الأوروبية، وأخص بالذكر كتاب «مراكز الفكر.. أدمغة حرب الأفكار»، وهو تأليف مشترك بين «ستيفن بوشيه، ومارتن رويو»، وفيه يوضح أن الحروب لا تقوم على اقتراح من شخص، وأن الهجمات لا يسنّها كتاب تاريخ يؤلفه فرد، وإنما هناك أكثر من 1500 منظمة ومركز للدراسات وإغناء الأفكار ونقاشها على المسرح السياسي الأميركي، حتى الحرب على العراق بنيت على دراسة أميركية قدمتها مؤسسة «مشروع للقرن الأميركي الجديد» إلى الرئيس كلينتون، تقضي بتفكيك أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين، وبعد ذلك بست سنوات جرى تبني المشروع من قبل إدارة أميركية أخرى.

يمكن فهم برنارد لويس عبر تأثير أفكاره بكتبه المهمة بدلا من تحويل كل أمراض المجتمعات عليه. المشكلة التي نعاني منها ليست منفصلة عنا، التقسيم الذي ينادى به مع كل اضطراب هو نتاج تخبط الرؤية المجتمعية تجاه الحدث. كل الأحداث التي خيضت كانت اعتباطية، ولو أننا قرأنا برنارد لويس لاكتشفنا في إرثه ما يضيء على أحداثنا حتى اليوم. لنقرأ كتابه «لغة السياسة في الإسلام» والذي يضم محاضرات نظمتها مؤسسة «اكسكون» وجمعية الفكر الاجتماعي في جامعة شيكاغو، وألقيت في الجامعة في الفترة ما بين 29 أكتوبر (تشرين الأول) و4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1986.

برنارد كتب فيه معلقا على الثورة الإيرانية سنة 1979 «تعبّر الثورات عن نفسها بشكل مختلف، ولكل منها طريقتها الخاصة في صياغة تقييمها للماضي، وطموحاتها بالنسبة للمستقبل، فالثورة الفرنسية بخلفيتها الآيديولوجية في تنوير القرن الثامن عشر صاغت مُثلها في تعبير «الحرية والإخاء والمساواة»، أما الثورة الروسية بخلفيتها في اشتراكية القرن التاسع عشر فقد صاغت خططها للمستقبل في مصطلحات عن الدولة اللاطبقية التي تدار من خلال ديكتاتورية البروليتاريا». وهو يعتبر أن سلوك الثورات في التاريخ البشري إنما يمتد إلى خارج نطاق الدول التي حدثت بها، سواء من خلال المُثل التي تبنتها أو من دونها.

لو أننا تخلصنا من الشعور بالمظلومية المستديمة مع كل مرحلة لعلمنا أن ما نعيشه هو نتاج الأفعال التي يمارسها المجتمع، وثمة دراسات في مراكز الفكر الغربية بالتأكيد وذلك من أجل تحقيق المصالح، ومن أجل ترسيخ النفوذ، لكن هذه الدراسات ليست «مخططات مؤامراتية» يرسمها مؤرخ يبلغ عمره قرابة المائة عام، بل هو «سيستم» استراتيجي.

برنارد لويس ليس ملاكا وليس ثعلبا، وإنما هو المؤرخ الذي طرح مؤلفاته على الرف، لنقرأها بعيدا عن الشيطنة، فهو الذي فتح أسئلة ونثر نظريات ونتائج على طول مشروعه التاريخي منذ أكثر من سبعين عاما.