سياسة «الطواقي»

TT

كانت دردشة في مكان لندني هادئ على الغداء، قال خلالها محدثي المطلع على أوضاع اقتصادات منطقة الشرق الأوسط «هل تعلم أن حجم الدعم المقدم للسلع والخدمات والذي تتحمله الميزانية المصرية سنويا يفوق بنسبة محترمة إجمالي ما هو مخصص للإنفاق على الصحة والتعليم، وهو وضع مخالف لأي عمليات تنمية صحيحة، على اعتبار أن التعليم هو الطريق إلى المستقبل، والارتقاء بمستوى الصحة يرفع مستوى الإنتاجية ويخفف نفقات العلاج؟».

الرد الحاضر دائما على هذا هو: وماذا يفعل الناس؟ فمن الصعب على أي صاحب قرار أو حكومة أن يقنع الناس بأن خفض الدعم، الذي يعني تلقائيا زيادة الأسعار، في مصلحتهم في ضوء مستويات الدخول الحالية ووجود كثيرين يدبرون حاجاتهم بالكاد أو لا يدبرونها. فقال محدثي «هذا صحيح، لذلك هذه القرارات تحتاج إلى حكومات لديها تفويض شعبي قوي حتى تستطيع أن تتخذ قرارات صعبة تقنع الناس بها. قد تكون مؤلمة على المدى القصير، لكنها تضع الأسس الصحيحة لعملية التنمية على المدى الطويل. كما أن دور المخططين الاقتصاديين أو المسؤولين عن ملفات الاقتصاد هو التوعية والعمل على سياسات صحيحة تظل للمستقبل بعدهم حتى لو لم يكسبهم ذلك شعبية». كما أن هناك، على حد قول محدثي، إجراءات كثيرة تجعل هذا الدعم يصل فعلا إلى الذين يحتاجونه بالفعل، ويوفر الهدر الذي يحدث ويجعل البعض يثرون نتيجة لاستغلاله.

هذه المعلومات ليست جديدة، ويعرفها كل المطلعين على أوضاع الاقتصاد سواء كانوا من أصحاب القرار أو من غير أصحاب القرار. والجميع يعرف أن هناك روشتة أو إجراءات إصلاحية يجب أن تتبع في لحظة معينة، وكان يجب أن تتخذها الحكومة منذ عقود لكن جرى تأجيلها خوفا من غضب الشارع، كما حدث أيام السادات في مظاهرات يناير (كانون الثاني) أواخر السبعينات، عندما حاولت الحكومة وقتها تخفيف الدعم تحت ضغط صندوق النقد الدولي، ومن وقتها وحتى اليوم وعلى حسب توصيف اقتصادي مطلع آخر فإن السياسة المتبعة هي كما يقول المثل المصري الشعبي «تلبيس طاقية هذا لذاك»، بمعنى أن هناك طاقية واحدة متوافرة يجري تدويرها لتوضع على رأس هذا مرة وذاك في مرة أخرى، من دون حل جذري يوفر طواقي لتغطية كل الرؤوس المحتاجة.

تلبيس الطاقية ليس مشكلة الاقتصاد المصري وحده، بل تشترك فيها اقتصادات كثيرة في المنطقة، اتبعت نفس النموذج الدعم الذي يبدأ صغيرا لحل مشكلة آنية ثم يكبر مع الزمن ليصبح مشكلة عويصة يصبح التراجع عنها ليس سهلا، وفي الوقت نفسه فإنها تخنق شرايين الاقتصاد بحيث لا يستطيع أن يتنفس بكامل رئتيه فيحقق معدلات التنمية ورفع مستويات المعيشة المطلوبة لخلق فرص عمل وتعظيم حجم السوق إلى مستواها الطبيعي.

ولو أخذنا في الاعتبار «الربيع العربي» أو موجات الثورات والانتفاضات التي شهدتها عدة دول عربية في آن واحد عام 2011، وأخذ بعضها بعدا دمويا أو حتى طائفيا مثلما يحدث في سوريا، فإننا سنجد أن جزءا ليس يسيرا من التململ الشعبي الذي حدث يرجع إلى أسباب اقتصادية تتعلق بمستويات المعيشة والشعور بعدم العدالة الاقتصادية، ونسب البطالة المرتفعة التي تجعل الشباب يشعرون بأنهم يواجهون مستقبلا لا يحقق طموحاتهم.

المفارقة أن ما حدث خلق حالة توقعات كبيرة بعد النجاح في التغيير السياسي، ثم ما لبث أن اصطدمت هذه التوقعات بالواقع وحقيقة أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى عمل شاق يستغرق سنوات وقرارات صعبة وأصحاب قرار أياديهم غير مهزوزة. كما أنه على أرض الواقع فإن الخسائر حتى الآن كانت كبيرة حسب التقدير الأخير الذي نشر لبنك «باركليز»، والذي قدر خسائر الربيع العربي حتى عام 2014 بـ800 مليار دولار. وقد تكون هذه تقديرات ما خسره الاقتصاد من موارد نتيجة الأوضاع الأمنية المضطربة، وكذلك الفرص التي أهدرت لو كان الاقتصاد استمر بمعدلات نموه الطبيعية.

مع ذلك فإنه لا يوجد أي مبرر للإحباط، فكل ذلك يمكن تعويضه، والاقتصاد مثل ماكينة قد تحتاج بعض الإصلاحات لتعمل بكفاءة، وهذا يستدعي أن تكون هناك بعد المراحل الانتقالية السياسية التي تمر بها عدة دول مثل مصر وتونس، والتي يجب استعجالها للوصول إلى حالة استقرار أمني، طريقة تفكير جديدة لإصلاحات تعالج جذور المشاكل، وتهيئ الرأي العام لذلك، فالتنمية الاقتصادية الصحيحة هي الأساس في الاستقرار السياسي، وهي القاطرة لتقدم المجتمعات.