ثرثرة أكثر مما ينبغي

TT

منذ عدة سنوات قامت «وكالة مشاريع أبحاث المعلومات الاستخباراتية المتطورة»، وهي مؤسسة بحثية داخل مجتمع الاستخبارات، بإطلاق ما يعرف باسم «مشروع إصدار الأحكام الجيدة». وتتمثل الفكرة في إجراء اختبار العوامل التي تقود المحللين للتوصل إلى تكهنات جيدة من خلال منافسات التنبؤات.

ومن أبرز النتائج المثيرة للانتباه، وفقا لأحد المشاركين في المشروع، هو أن دقة التنبؤ تتطور بالضرورة عندما يتمكن المحللون من الوصول إلى إشارات استخباراتية سرية من ذلك النوع الذي تقوم وكالة الأمن القومي بجمعه سرا من المكالمات الهاتفية ورسائل قادة العالم وتقريبا، حسبما يبدو أحيانا، من أي فرد آخر. الواقع أن كبار المتنبئين، الذين يجري استقدامهم من الجامعات والأماكن الأخرى، يؤدون مهمتهم بنسبة 30 في المائة بصورة أفضل من متوسط أداء محللي مجتمع الاستخبارات، الذين يستطيعون قراءة الرسائل التي جرى اعتراضها والبيانات السرية الأخرى. ومعنى ذلك أن التكهنات الجيدة لا ترتبط بالضرورة بالوصول إلى البيانات السرية. ويرى الدكتور فيليب تيتلوك، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا الذي يرأس المشروع، أن المعلومات الكثيرة للغاية قد تؤدي إلى إرباك المحللين وخفض دقة التكهن لديهم. فمشكلة فصل «الإشارات» الأساسية عن ثرثرة «الضجيج» معروفة جيدا للعلماء منذ عقود، ولكن يبدو أن هذا الأمر قد تناسته الوكالات الاستخباراتية في وقتنا الراهن في مسعاها لجمع المعلومات.

من الواضح جليا أن وكالة الأمن القومي تعمل من خلال تبني نظرية بأن الحصول على الكثير من المعلومات هو الأفضل. وقد برعت الوكالة في نشر المعلومات المتاحة للمحللين. وفي حال وجود قناة مشفرة ثلاثيا مثل «التوجيه البوصلي»، فإن وكالة الأمن القومي ستفك تلك الرموز. وإذا كان هناك مخطط سري مثل المقبس أو البروتوكول ذو الطبقة الآمنة، حينئذ ستقوم وكالة الأمن القومي بفك الشفرة. وإذا كان أي قائد من قادة العالم لديه جوال يمكن النفاذ إليه، فإن الوكالة ستتنصت عليه. بيد أن هذا النشاط الجنوني والسريع للإشارات يفتقدها الميزة الأساسية لإصدار حكم صائب. قراءة ما تكشفه وتفصح عنه المراقبة الإلكترونية لوكالة الأمن القومي، جعل البعض يشبه الموقف بـ«الأخ الأكبر» في رواية جورج أوريل «1984» الذي يراقب ويعرف كل شيء. لا تتماشى هذه الصورة مع انطباعي عن القادة العسكريين واسعي الاطلاع بوكالة الأمن القومي. وعوضا عن ذلك، فإنني أعتقد أن الموقف يتشابه مع «الصبي المتمرن في مهنة الشعوذة لدى الساحر» في فيلم «فانتازيا» من إنتاج «والت ديزني»، حينما تسبب ذلك الصبي في حدوث كارثة من خلال استخدام أدوات وتعويذات لم يدرك عواقبها. وقد أظهرت الوثائق التي أعلنت عنها وكالة الأمن القومي أن غالبية عباقرة التكنولوجيا يتمتعون بحيوية يغلب عليها طابع المراهقين، فهم لا يقيمون وزنا لحدود الخصوصية. ويعطون مشاريعهم البالغة السرية أسماء كودية جذابة مثل «النمام الذي لا تعيقه الحدود» أو «الزرافة المغرورة»، كما أنهم ينشئون أقساما ويعطونها شعارات تبدو وكأنها هتافات التباهي في الملاعب الرياضية مثل «لا شيء سوى الشبكة» أو «الفريق لا يهدا أبدا». هذه المجموعة تجعل المرء يدرك أن الأفعال الصبيانية يمكن أن يكون بها شيء من التميز أيضا. ومثل كثير من المخترقين، يبدو أن الكثير من العاملين في وكالة الأمن القومي قد قاموا بعمل أشياء في بعض الأحيان من أجل طبيعتها المشوقة، فقط لأنهم استطاعوا القيام بذلك.

ويدافع كبار المسؤولين في وكالة الأمن القومي عن أنفسهم بقولهم إنهم في حاجة إلى الحصول على أكبر قدر من عينة «البيانات الخلفية» وتسجيل المكالمات الهاتفية والرسائل حتى يكون في استطاعتهم في ما بعد فرز هذا الكم الهائل من المعلومات لاستخراج الأشياء الخطرة منها. المشكلة أن وكالة الأمن القومي تبدو غير مستعدة لتعريف أية حدود لما يجب أن يكون عليه هذا الكم الهائل من المعلومات. وقد حذرت محكمة مراقبة الاستخبارات بوضوح في عام 2011 من أن الكثير من أنشطة الوكالة غير قانونية إلى حد بعيد، وهو ما حدا بالوكالة إلى تغيير إجراءات عملها على المستوى الداخلي، لكن تقريرا نشر في «واشنطن بوست» يوم الخميس أشار إلى أن الوكالة استخدمت سلطتها الاستخباراتية الخارجية لجمع معلومات مشابهة في بعض الدول. وهذا ما يجب أن يقلق أولئك الذي يدعمون المهام الواسعة التي تقوم بها الوكالة في ما يتعلق بالأنشطة الاستخباراتية ومكافحة الإرهاب.

ولا شك أن المعلومات التي سربها متعاقد وكالة الأمن القومي السابق إدوارد سنودن هي السبب الرئيس وراء نزيف الأسرار هذا. قد يكون من الصعب النظر لسنودن حتى الآن على أنه بطل، لأن الطريقة التي اختار أن يكشف بها البرامج المصرح به قانونا (وحتى وإن تم كشفها بطريقة غير حكيمة في بعض الحالات) خلقت الكثير من المشكلات للولايات المتحدة، كما أنها سوف تكلف الشركات الأميركية، التي تعاونت مع قرارات المحاكم ومطالب وكالة الأمن القومي، عشرات المليارات من الدولارات. لكن تبقى الحقيقة أننا نعيش في عالم ما بعد تسريبات سنودن، وأن سياسات الولايات المتحدة في ما يخص جمع المعلومات الاستخباراتية ستختلف حتما في المستقبل. ومن الصعب تصور أن يكون هناك اتفاقية عالمية لإطار محدد لعمليات التجسس، التي تتضمن، في أبسط تعريف لها، اختراق قوانين الدول الأخرى. بيد أن أميركا والكثير من الدول الأخرى التي تقوم بتنفيذ عمليات مراقبة تحتاج بالفعل إلى قواعد جديدة في هذا المجال. فالمواثيق المناهضة للتعذيب وانتشار الأسلحة الكيماوية وسوء معاملة المساجين لا تمنع اندلاع الحروب، لكنها تحد من التطلعات الكبيرة لمن يخالفونها. وبالتالي فالأمر يحتاج إلى شيء من هذا القبيل في حقل الاستخبارات.

أما النتيجة الأسوأ لهذا فسوف تنعكس للأسف على الاقتصاد العالمي، حيث إن الأمم سوف تحاول أن تغلف معلوماتها بسياج من السرية داخل حدودها الوطنية. وهذه الخطوة المضادة للعولمة لن توقف الجواسيس، لكنها سوف تؤدي إلى تباطؤ التجارة والإبداع، وتجعل الحياة الرقمية صعبة على كل الناس.

* خدمة «واشنطن بوست»