صراع المدن!

TT

ينشغل العالم وهو محق بالصراع الاقتصادي في شكله المعروف والتقليدي والمتعلق بالتنافس التجاري والصناعي بين الدول الكبرى والناشئة. ولكن هناك نوع آخر من التنافس المحموم بين المدن العالمية الرئيسية لنيل المكانة الأساسية كقلب الاقتصاد ومركز صناعة القرار المؤثر على العالم، سواء بثقافته وأذواقه وخياراته. والتنافس على أشده اليوم بين مدينتي لندن ونيويورك، وإن كانت الكفة تميل وبقوة لصالح العاصمة الإنجليزية التي تمكنت من أن تكون نبض العالم بامتياز.

سنوات طويلة جدا كانت فيها لندن مثارا للسخرية والنكات بسبب رداءة الخدمات فيها وسوء البنية التحتية التي وفرتها. وكل هذا جاء لصالح مدن - مثل نيويورك وسنغافورة وهونغ كونغ - استفادت من ذلك وانعكس هذا الأمر على الاستثمارات التي حلت عليها والتطور العقاري والعمراني الهائل، وكذلك تحسن مهول في الخدمات والبنى التحتية.

ولكن لندن أخذت على عاتقها أن تتحدى مصاعبها وخصصت الملايين من الجنيهات الإسترلينية لتلافي العيوب، وعبر السنوات تمكنت من استقطاب أهم العقول والكفاءات المهاجرة إليه (وهي سمة مشتركة في كل المدن الناجحة، قدرتها في جذب الكفاءات والعمل على توطينها)، وأصبح هناك مصطلح جديد هو الاقتصاد «اللندني»، نظرا لأن اقتصاد المدينة كان أداؤه مغايرا وتصاعديا أكثر من أداء الاقتصاد البريطاني بمجمله، بل إن الأمور الاقتصادية تطورت في لندن بشكل مذهل حتى باتت جيوب داخل المدينة نفسها لها اقتصادها الخاص ومؤشراتها مثل المربع الذهبي في منطقة نايتسبريج الشهيرة والمعروفة بمبانيها الفارهة ومتاجرها المعروفة.

واليوم يعد عمدة نيويورك (المغادر لمنصبه بعد انقضاء المدة المسموحة له) الملياردير الأميركي مايكل بلومبرغ أن تكون لنيويورك مكانة جديدة وأكثر جدية وقدرة على منافسة لندن وهو محق. ففي حقبته تم تطوير المدينة بشكل مبهر ومهم وتحسن الكثير من المرافق المهترئة والمتدهورة.

أوروبيا فقدت باريس الكثير من بريقها بسبب السياسة الضريبية غير المنطقية والتي تسببت في هجرة الكثير من رؤوس الأموال المؤثرة والفعالة جدا من المدينة على عجالة، وبرلين حتى الآن لم تتمكن من إحداث النقلة المأمولة منها كما يليق بعاصمة الاقتصاد الأوروبي الأكبر وثالث أكبر الاقتصاديات العالمية ولم يكتب لها التوفيق الكامل في استقطاب المشاريع الكبرى المطلوبة لها.

هونغ كونغ من جهة أخرى تفوقت واستقوت تماما على طوكيو وسيول وبانكوك وكوالالمبور تماما، وتبقى سنغافورة وحيدة تحاول اللحاق بجدية وجدارة خلف المدينة الصينية العتيدة التي باتت قلب الشرق الأقصى كمعيار للتفوق الجديد.

وهناك نجم يسطع أفقه من بعيد ويراهن عليه الكثيرون وهو دبي، دبي بفنادقها وأسواقها ومطاراتها وشبكة مواصلاتها الحديثة ومطاعمها وحكومتها الذكية وشفافية أعمالها ونظامها المصرفي ومينائها وجميعها يسعى لتطويرها باستمرار. تكون دبي قد دفعت «رسوم الاشتراك» في نادي المدن الكبرى في العالم وقد يكون من المرشح أن ينضم إليه إسطنبول وسيدني وفانكوفر لأسباب مختلفة، كل على حدة.

السباق المحموم في اقتصاديات المدن سيعود بفائدة وقيمة مضافة للعالم بأسره لأنه سيأتي بخدمات أفضل وقيمة أحسن وترفع سقف المتوقع والمقبول كمعيار للتقييم بين مدن العالم الأخرى التي كانت ترضى بالقليل والهزيل.

نعيش عالما جديدا له شروط جديدة، هناك من يلعب ويسجل وهناك من يشاهد ويشجع وهذا هو الفارق الكبير.