حسابات استغلال التناقض بين الأقليات و«القاعديين»

TT

استضافت العاصمة اللبنانية في مطلع الشهر مؤتمرا تحت عنوان «المؤتمر المسيحي المشرقي»، انتهى بعد يومين بإعلان إنشاء «اللقاء المسيحي المشرقي».

الجهات الداعمة للمؤتمر واضحة التوجهات والمواقف. وإذا كان لي أن أركز على التمثيل اللبناني في المؤتمر فإنني لاحظت أنه كان مناسبة أطل فيها مسيحيو تكتل «8 آذار» المرتبط مباشرة بالمحور الإيراني - السوري، باعتبارهم الممثل الشرعي الوحيد للمسيحيين اللبنانيين. ومع أنني لا أزعم معرفة كافية بالخلفيات السياسية للإخوة المسيحيين العراقيين والمصريين الذين شاركوا، فإن ممثلي المسيحيين السوريين كانوا من أهل النظام، وبعضهم أعضاء في مجلس الشعب الحالي الذي «انتخب» أثناء حرب نظام دمشق على شعبه وعلى وقع قصف المدن والقرى السورية.

أزمة الأقليات ليست جديدة في المشرق العربي، لكنها ليست أيضا حكرا على المشرق العربي، ففي أوروبا ثمة أزمات أقليات، منها العرقي ومنها الديني ومنها الطائفي، من روسيا والبوسنة والهرسك شرقا وحتى آيرلندا الشمالية غربا. وفي آسيا وأفريقيا أيضا هناك أزمات أقليات دينية وعرقية وطائفية، ولا يستثنى من ذلك حتى العالم الجديد (الأميركتان وأوقيانيا) لجهتي التعامل مع اليهود والتمييز العنصري ضد السود والأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) والأبوريجينيين، ولعل الأحدث عهدا قضية اللجوء غير الشرعي.

أيضا الهجرة المسيحية من دول المشرق ليست ابنة البارحة، وتخوف الأقليات المسيحية وغير المسيحية من الغالبية لم يظهر بين ليلة وضحاها؛ فلقد بدأت الهجرات المسيحية المشرقية قبل قرون، وكانت هناك إشكاليات عديدة - لا تقتصر بالضرورة على المسيحيين - إبان «حروب الفرنجة» التي سماها الأوروبيون «الحروب الصليبية». وثمة حقيقتان من الواجب سوقهما، قبل أن يستولي المتاجرون بفكرة «تحالف الأقليات» ونفر من «شعوبييها» الجدد على مشاعرنا وغرائزنا.

الحقيقة الأولى، أن نوبات تعصب الغالبية (أو الغالبيات) ضد الأقليات كانت نوبات عابرة تحدث تحت وطأة ظروف ومؤثرات خارجية، ولم تكن استراتيجية ممنهجة دائمة. كانت نوبات التعصب والانغلاق الفكري والديني تثور عند تعرض المنطقة لغزو خارجي يهز ثقة الناس بعضهم ببعض فيتقوقعون أو يكفرون أو ينجسون. وخير الأدلة على ذلك مستوى الانفتاح الفئوي العظيم أيام صعود الدولة الإسلامية كبدايات الخلافات الأموية والعباسية والفاطمية، وفي المقابل، تفاقم التعصب المواكب للخوف أيام تضعضعها وانهيارها.. كما حصل إبان الغزو المغولي و«الحروب الصليبية»، ومن ثم شيخوخة الدولة العثمانية، وظهور المشروع الصهيوني، وأخيرا المشروع الإيراني.

والحقيقة الثانية، أن جزءا من الاضطهاد الذي تعرضت له الأقليات (العرقية والدينية والمذهبية) تسببت به أقليات أخرى... لا الغالبية أو الغالبيات. الأقباط في مصر، مثلا، رحبوا بالإسلام بسبب نزاعهم الديني مع إخوانهم في الدين المسيحي. والفرق الإسلامية (الأقلوية) ارتكبت عبر تاريخ المنطقة مذابح فيما بينها، والعلاقات الثنائية بين الشيعة الجعفريين والإسماعيليين والعلويين النصيريين والموحدين الدروز ما كانت مثالية إطلاقا. بل ماذا عن الصراعات في شمال العراق بين الأكراد والتركمان (الجانبان من السنة)، وبين الأكراد والآشوريين والكلدان (أقليات غير عربية)، وبين الحكم العربي السني في بغداد والأكراد السنة.

الغاية من إيراد ما سبق أنه لا يجوز أن تترك معالجة أزمة الأقليات في المنطقة لشخصيات وتيارات متعصبة وفاشية تمارس الإلغاء والإقصاء أصلا داخل بيئتها.

نموذج «التيار العوني» المتحالف مع الأصولية الشيعية المحركة والمدعومة إيرانيا، والمعادي صراحة للقوى التي تتمتع بالغالبية في أوساط السنة، لا يحتاج إلى شرح طويل. إنه فعليا يجر المسيحيين اللبنانيين إلى عداء مفتوح مع العمق السني عبر العالم. وتحت جناح «التيار العوني»، ومن منطلقات مشابهة، نجد حزب الطاشناق يتحمس للتحالف مع الشيعية السياسية في لبنان والمنطقة لأن له حسابات قديمة مع تركيا التي ينظر إليها على أنها «مرجعية سنية» لا مجال لمواجهتها إلا بالاصطفاف مع إيران.

وخارج الإطار المسيحي، ورغم الشعارات الجوفاء، فإن هوية المؤسسة السياسية والأمنية التي يقودها بشار الأسد في سوريا، غدت هوية طائفية. وإلا فكيف يمكن شرح مستوى التعصب الطائفي الذي كشفته الثورة السورية بعد أكثر من أربعة عقود من حكم يزعم التزامه العروبة والعلمانية والاشتراكية؟! وكيف تدافع عن هذا الحكم «اللاطائفي» ميليشيات شيعية طائفية تابعة لطهران؟! ومن ثم، كيف يمكن لهذا الحكم أن يسلم حكم لبنان، ملاذ الأقليات، بعد سيطرة طالت لثلاثة عقود، إلى سلطة تنظيم سياسي ديني عسكري مثل حزب الله؟

بل ماذا فعل هذا الحكم نفسه، الذي بارك بالأمس «المؤتمر المسيحي المشرقي» في بيروت، بالقيادات المسيحية والدرزية والشيعية عندما هيمن على لبنان على امتداد ثلاثة عقود؟ ماذا فعل بالذات بميشال عون الذي نصب نفسه، عندما كان منفيا في فرنسا قبل بضع سنوات... «أبو قانون محاسبة سوريا» في الكونغرس الأميركي.

غير أن النقطة الأهم التي تستوجب التوقف الطويل عندها تبقى: ما هي بالضبط علاقة هذا الحكم بـ«الأصوليات التكفيرية»، كما جاء في بيان «المؤتمر».. من جماعة «أبو القعقاع» إلى «فتح الإسلام» إلى تنظيمات وشراذم أخرى اصطنعها أو استغلها عبر السنين؟

يجب رصد «السر» في تراجع جيش النظام عن مناطق مسيحية، مثل معلولا وصدد، أمام «التكفيريين»، ثم استعادتها فجأة... بعد حملات إعلامية تتحدث عن مهاجمة كنائس وتكسير صلبان!

ويجب التفكير جديا بسبب حرص تنظيمات مؤيدة لـ«القاعدة» على محاربة «الجيش السوري الحر» بدلا من محاربة جيش النظام. وكيف سهلت مهمة إطلاق المخطوفين الشيعة من مدينة أعزاز بعدما أحكم السيطرة عليها «التكفيريون» الذين فضل السيد حسن نصر الله مقاتلتهم على مقاتلة إسرائيل.

ويجب التساؤل عن سبب إقدام جماعات «تكفيرية»، حسب وصف نظام الأسد وحزب الله، على خطف الأب دالوليو... الذي كشف جرائم النظام في حمص وأماكن أخرى في سوريا.

وأخيرا وليس آخرا، يحق التساؤل... ما هي بالضبط طبيعة علاقة طهران بـ«القاعدة» والتنظيمات المشابهة لها.