قصة العلاقات المصرية ـ الأميركية

TT

التهمت خلال الأيام القليلة الماضية مذكرات د. سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، وفي كثير من الجامعات العربية والأجنبية، والرئيس الأول للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، والمجلس العربي للطفولة والأمومة، ومنتدى الفكر العربي في عمان، وصاحب ومؤسس مركز ابن خلدون للدراسات التنموية. تاريخ الرجل أكثر من ذلك بكثير، ولكن ما يهم في هذا المقام أن القراءة ذكرتني بواقعة جرت في شهر فبراير (شباط) من عام 1981 حينما انعقدت ندوة نظمها معهد المشروع الأميركي حول العلاقات المصرية - الأميركية، وقدم صاحبنا فيه ورقة أظن أن ما جاء فيها من نموذج تحليلي ربما يكون مفيدا لفهم اللحظة الراهنة لهذه العلاقات.

قام النموذج على المشابهة ما بين علاقات الدول، والعلاقات الإنسانية، خاصة بين الرجل والمرأة حيث تمر بمراحل تبدأ بالتعارف الحميم (KCourting) حيث يسعى كل طرف إلى التعرف على الطرف الآخر وحدوده وإمكانياته. هنا يجري تحديد الهوى والمصلحة والتوافق النفسي والمؤسسي، وما لدى كل جانب من ارتباطات أخرى عائلية أو غيرها، فإذا كان ذلك كله إيجابيا ينتقل الطرفان إلى المرحلة الثانية، وهي الخِطبة (Engagement). هذه المرحلة فيها قدر من الالتزام الذي يستلزم مزيدا من الإفصاح، مع تولد عدد من الطموحات المشتركة حول المستقبل قد تصل إلى حد الأحلام. يلي ذلك المرحلة الطبيعية للارتباط المصاحب بشهر العسل (Honeymoon)، التي يبدو فيها كما لو أن طرفي العلاقة قد أصبحا متطابقين في الرأي والرؤى، مع قدر من الزهو عما تعطيه العلاقة لكليهما من رضا واطمئنان.

ولكن لأن الأمور لا تبقى دائما على حالها، فإنه سرعان ما يجري اكتشاف ما لدى كل طرف من عيوب جرى التقليل منها في السابق، فتتسبب في نوع من المشاجرات الخفيفة (Marital quipling) التي سرعان ما تصير عنيفة (Open Quarrels)، فتصل إلى الطلاق.

طبّق سعد الدين إبراهيم هذا النموذج على العلاقات المصرية - الأميركية وقتها، في مطلع عام 1981، مع مولد إدارة جديدة في واشنطن يقودها رونالد ريغان الجمهوري صاحب الرؤية المحافظة. كانت فترة الاقتراب الحميم قد جرت في أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وأصبح «صديقي كيسنجر»، كما كان يشير الرئيس السادات، ضيفا دائما على القاهرة، ومن بعده صار جيمي كارتر هو الآخر صديقا للرئيس السادات، وتعاون الطرفان في التوصل إلى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ومهّد الارتباط المصري - الأميركي لشهر عسل كانت إدارة ريغان منذرة بقطعه، نتيجة لأسباب كثيرة، ربما كان أهمها أنه لم يعد يرى في الشرق الأوسط الأهمية التي كان يعطيها لها سابقوه (نيكسون وفورد وكارتر). وبالنسبة لي بدا النموذج، على طرافته وخفته أحيانا، ملائما لفهم العلاقات المصرية - الأميركية في مراحل سابقة على وقت الورقة، ولاحقة عليها أيضا. فبشكل ما فإن العلاقة بين واشنطن والقاهرة مرت بالمراحل ذاتها ما بين 1952 و1956 كان فيها الاستكشاف المتفائل مع قيام ثورة يوليو (تموز)، حتى كان الطلاق مع سحب عرض المساعدة في بناء السد العالي، ومن بعدها مشروع أيزنهاور والصدام في لبنان عام 1958، الذي سبّب طلاقا دام حتى انتبهت إدارة كيندي لضرورة مد الجسور مرة أخرى، وكان ذلك نوعا من التعارف الحميم الذي انتهى إلى الصدام، مع سحب أميركا لمعونة القمح عام 1965، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع حرب يونيو (حزيران) 1967.

كانت إدارة ريغان بالتأكيد قطعا لشهر العسل المصري - الأميركي، وكان عقد الثمانينات شاهدا على كثير من المشاجرات الخفيفة والثقيلة، ولكن العلاقة استمرت بفعل النشاط السياسي والدبلوماسي المصري، الذي عاد بها إلى الصف العربي، وأيضا عودة العلاقات المصرية - السوفياتية، وبفعل المعونات الأميركية لمصر، التي بلغت في ذلك الوقت 1.3 مليار دولار من المعونة العسكرية، و815 مليونا من المعونة الاقتصادية. على أي الأحوال، استمرت العلاقة بشكل ما من أشكال الفتور حتى جاءت اللحظة لتجديد ما كان، عندما قام عراق صدام حسين بغزو الكويت. أمام هذا التهديد السافر لأمن المنطقة، كانت العلاقات المصرية - الأميركية جاهزة لشهر عسل جديد، امتد طوال عقد التسعينات، حيث لم يجرِ تحرير الكويت فقط، وإنما بدأت عملية للسلام العربي - الإسرائيلي أنتجت سلاما أردنيا - إسرائيليا، واتفاقات أوسلو. كانت مصر، وخاصة شرم الشيخ مركزا للتفاوض والتعامل مع العقبات والأزمات، كما كانت مصر ممرا للقوات الأميركية إلى منتهاها في الشرق. ولولا أنه جرت مشاجرة كبرى خاصة بالأسلحة النووية الإسرائيلية ومعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في منتصف التسعينات، لكان العقد زمنا للعلاقات الوطيدة.

من الصعب دائما تحديد النقطة الزمنية التي بدأ عندها تدهور العلاقة، فمع القرن الجديد كان الظن المصري في البداية أن إدارة جورج بوش الجديدة سوف تكون مثل تلك التي كانت قديمة مع الأب الحكيم. ولكن الحال لم يكن كذلك؛ فلم يكن الرئيس الجديد أرعن فقط، وإنما كان محاطا بمجموعة من «مهاويس» المحافظين الجدد. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، لكي تشعل طاقة كامنة من العدوانية في السلوك الأميركي ظهر في غزو العراق وأفغانستان واتهام الدول العربية، خاصة مصر، بالمسؤولية عن الإرهاب بسبب غياب الديمقراطية فيها.

وعلى مدى الفترة الأولى لإدارة جورج بوش الابن كانت المشاجرات قد بلغت أقصى درجات العنف فيما يخص الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والسلوكيات الأميركية إزاء العراق والعالم الإسلامي. كانت مصر قد عانت من الإرهاب مثل غيرها، ولكن الطريقة الأميركية للتعامل معه من خلال علاقات سيئة مع الدول الرئيسة في المنطقة معوجة في منهجها، وفقيرة في نتائجها. لم تفلح فترة بوش الثانية في ترطيب الأجواء بين القاهرة وواشنطن، وبدا أن باراك أوباما ربما يكون فاتحة عهد جديد.

العجيب أن القاهرة التي كانت تتعرض للهجوم اليميني لعهد جورج بوش، باعتبارها ليست ديمقراطية. في العهد الجديد لباراك أوباما أصبح الهجوم من اليسار، الذي أصبح يرى أن الديمقراطية لن توجد في الشرق الأوسط ومصر خاصة إلا من خلال حركة الإخوان المسلمين. لم يكن المنطق مستقيما، وسقطت الحركة مع ثورة يونيو، ودخلت أميركا في إجراءات الطلاق بعد أن بدأت تسحب وتجمد وتعلق المعونة، ولم يكن هناك أحد في القاهرة على استعداد للقبول بهذا المنطق. ما بقي خط رفيع من المعونة، وقليل من المحادثات التليفونية بين وزراء الدفاع، وكلاهما يكفي بالكاد انفصالا، أما الطلاق فهو عادة ما يكون النتيجة الطبيعية لانفصال يدوم كثيرا!