العصر الذهبي للأخبار

TT

شهدت المؤسسات الإخبارية الأميركية على مدى العشرين عاما الماضية، تراجعا في التغطية الخارجية المكلفة - بإغلاق المكاتب وتضييق المساحات وفترات البث المباشر، مما أثار أسى عدد كبير من خبراء الصحافة. بيد أن هذا كان بالنسبة للقارئ النهم والمطلع، كرما غير مسبوق.

أبدأ يومي بمتابعة ما كتبه مراسلو هذه الصحيفة الأجانب - 75 مراسلا في 31 مكتبا. وأستمع إلى الراديو الوطني في صالة التمارين الرياضية، ثم أطالع صحيفتي «وول ستريت جورنال»، و«فايننشال تايمز» ومواقع «الغارديان» و«بي بي سي»، ثم ألقي نظرة على آخر أخبار وكالة «أسوشييتد برس» عبر الموبايل. بعد ذلك، أتصفح موقع «الجزيرة» باللغة الإنجليزية لمتابعة تطورات الحرب في سوريا، ثم القسم الدولي في مجلة «ذا أتلانتك»، وقسم «أقاليم» على موقع «فورين بوليسي» وبعض المدونين على موقع «فورين بوليسي»، ولولا أن لغتي الروسية جيدة لاستمعت إلى أنباء إذاعة «راديو موسكو» المستقلة «إيخو موسكفي»، ولربما ألقيت نظرة سريعة على موقع «ذا ديلي مافريك» المثير للجدل في دولة أخرى أتابعها، جنوب أفريقيا. بعد كل ذلك، إن لم أشعر بالتخمة أدخل إلى موقع «أون لاين بيبرز» الذي يضم روابط آلاف الصحف والمجلات.

صحيح أن هناك عددا محدودا للغاية من المراسلين ذوي الخبرة في الخارج، لكني أستطيع الآن الوصول إليهم من دون أن أبرح مكتبي، وأكثر هذه الوليمة يأتي من دون مقابل. وعندما يتحسن برنامج الترجمة الآلية، سوف أتمكن من الدخول إلى المصادر الإخبارية بالفارسية والصينية.

ليس هذا فحسب، بل جعل اتصال العالم من الصعوبة بمكان على الأنظمة الشمولية التعتيم على الأخبار. ففي عام 1982، عندما سحق الرئيس حافظ الأسد السوري الانتفاضة بسحق مدينة حماه بشكل كامل، لم تتعد القصة سوى شائعات لشهور، وبحسب توماس فريدمان، الذي غطى القصة لصحيفة «نيويورك تايمز»، كان السبب الوحيد الذي دفع حافظ الأسد في النهاية للسماح للصحافيين برؤية المذبحة هو أنه أراد أن يعطي أبناء شعبه درسا موضوعيا في كيفية معاملة مثيري القلاقل. لكننا في الوقت الراهن نستطيع مشاهدة المذابح التي يرتكبها بشار الأسد على «اليوتيوب».

وعندما اجتمع المهتمون بالتغطية الدولية معا - كما فعل البعض منا الأسبوع الماضي في مؤتمر مهم حول مستقبل التغطية الخارجية في كلية بوسطن - كانت إحدى القضايا المطروحة على طاولة النقاش: هل نعيش حقا العصر الذهبي للأخبار، رغم كل هذا الضجر. كانت إجابتي هي «نعم، ولكن. وقد شرحت بالفعل ما قصدته بـ(نعم، ولكن)».

المشكلة بالنسبة للقصور في التغطية الخارجية المهنية ليست في نقص الخيرة، بل في ظهور - الاستغلال - الاستبدالات، من الاستعانة بفريق من الصحافيين المستقلين (صحافي حر)، الذين يكونون في أغلب الأحيان غير مدربين، وغير مدعومين أيضا من الصحف. فهم ينجذبون إلى الأحداث المدوية، لأنها هي ما يدفع رؤساء التحرير والمنتجون الإذاعيون الأموال مقابلها.

صحيح أن البعض منهم يمتلك موهبة كبيرة، وأن الكثير يفضل العمل الحر عن العمل الدائم حتى يتمكن من العمل بحرية في تغطية القضايا التي تثير اهتمامه. كان العمل الحر على الدوام وسيلة للدخول إلى مهنة التقارير الدولية، لكنه تحول بشكل كبير الآن إلى عمود فقري للمهنة.

دائما ما تكون المهمات الخارجية في المؤسسات الإخبارية الكبيرة مصحوبة بنفقات السفر والرعاية الطبية والأمن وتدريب الإسعافات الأولية إذا كنت ستغطي الصراع، والمحررين والمترجمين، وفي بعض المناسبات القليلة إجازات مدفوعة لتدريب اللغة. ويصاحبها تقنيون يعملون على التأكد من جهوزية الحاسبات وهواتف الاتصال عبر الأقمار الصناعية. ويصاحبها محامون في حال التعرض للمقاضاة أو الاعتقال. ويصاحبها أيضا رؤساء تحرير يطلبون منك ألا تقوم بهذه المحاولات الحمقاء، ويعلمون عائلتك في حال حدث ما يضرك.

الاتجاه الذي يثير القلق هذه الأيام هو دفع الأموال وفق مواصفات محددة. وحتى من دون تقديم عقد أو مهمة رسمية، وهو ما يعني ضمنا بعض المسؤولية على الأقل، تطلب المنظمات الإخبارية من صحافيين مستقلين قصصا إخبارية جاهزة أو صورا بعد دفع هؤلاء الصحافيين قيمة استئجار السيارات وإنجاز العمل - أي بعد انتهاء المجازفة. (وحتى بعد ذلك، ربما تكون هناك صعوبة في الحصول على المال. فقد دشن كاتب متعاون في اليمن حملة لفضح المؤسسات الإخبارية التي تستغل الصحافيين). وتقول إيما بيلز، الصحافية البريطانية التي عملت في سوريا وتحولت إلى الدفاع عن حقوق الصحافة المستقلة هناك في المناطق الملتهبة الأخرى: «عندما يقع مراسل صحافي حر في مشكلة بمنطقة نزاع، يسقط في ثقب أسود».

ووفق تقديراتها، هناك 17 صحافيا أجنبيا مختطفا من قبل فصائل مختلفة في الحرب الأهلية السورية، وغالبيهم صحافيون لا ينتمون إلى مؤسسة إخبارية محددة.

كان هذا اليأس والخطر دافعا لمحاولات تنظيمية، فبيلز عضو في منظمة من المتطوعين التي تهدف إلى تقديم التدريب والتأمين والمهمات والخدمات الأخرى للصحافيين المستقلين. وبدأ الصحافي سباستيان جونغر برنامجا يعمل على تدريب الصحافيين المستقلين في مناطق الحرب على الإجراءات الطبية الطارئة. وتقول ليلى هندي، نائب مدير البرنامج، إن الكثير من الصحافيين المستقلين يتحول إلى شبكات دعم ذاتي لأنهم يترددون في استعداء أصحاب العمل المحتملين. وقالت: «الشيء الوحيد الأسوأ من الاستغلال، ألا تستغل على الإطلاق».

تحذيري الآخر بشأن هذه الفترة من الوفرة هي أنه على الرغم من روعتها بالنسبة لعشاق التغطيات الخارجية، فإنني لست على يقين بمدى أهميتها للقارئ السلبي. فوفرة المعلومات التي لم تتعرض لعملية ترشيح ربما تكون بلا قيمة. ولذا، فرغم حقيقة معرفة العالم الخارجي بحادث الهجوم الكيماوي في سوريا فور وقوعه في أغسطس (آب)، فإن طوفان الإعلام الاجتماعي كان مليئا بالمعلومات المغلوطة (بعضها عن قصد) ومليء بالمتناقضات - بما يكفي لجعل النظام ومؤيديه يلقون باللائمة في المذبحة على الثوار بكل جرأة.

وحتى بعد زيارة مفتشي الأمم المتحدة الموقع وتقديمهم تقريرا بذلك، فإنهم لم يجيبوا عن التساؤل بشأن الطرف المذنب. وقد تطلب الأمر وجود مراسل ذي خبرة وعلى دراية بالحرب الأهلية في سوريا، وهو زميلي سي جيه تشيفرز، للبحث والتنقيب عن المعلومات الفنية في تقرير الأمم المتحدة واكتشاف الدليل - باستخدام اتجاهات البوصلة لصاروخين كيماويين - الذي يبرهن على أن الهجوم قد جرى إطلاقه من دمشق، معقل القوات العسكرية التابعة للأسد.

وقال تشيفرز في حديثه أمام مؤتمر بوسطن: «إن وسائل الإعلام الاجتماعي لا تعني مهنة الصحافة»، مضيفا أن «وسائل الإعلام تشير إلى المعلومات، في الوقت الذي تتعامل فيه مهنة الصحافة مع تلك المعلومات».

ويحذر بيتر جودمان، المحرر بصحيفة «هافينغتون بوست» - التي تجد فيها مسحة من الأسى على تراجع دور وسائل الإعلام القديمة - من ادعاء أننا نعيش عصرا ذهبيا. نشر جودمان قبل أسابيع قائلا: «يحتاج من يحولون حياتنا إلى صحافة قائمة على المواقع الإلكترونية، إلى الاعتراف بهذه الحقيقة الأساسية وهي: أنه رغم الدلائل الواضحة على المستقبل الواعد للشبكة الإلكترونية، والحقيقة الدامغة بأن عصر المستقبل الرقمي هو الأكثر استمرارا، فإن التغطية الدولية تعيش أزمة حرجة».

وأشار جودمان موضحا أنه «لا يوجد بديل للمراسلين الأجانب المتخصصين، الذين قد يلجأون إلى إجراء مقابلات تستمر لوقت أطول من اللازم ليس إلا لمجرد انتزاع اقتباس مفيد لسد فجوة بأحد الأخبار». وقد بدأت «هافينغتون بوست»، وهو ما يضاف إلى رصيدها، إنشاء هيئة صغيرة من الموظفين الأجانب سيشرف عليها جودمان، المراسل السابق بالصين.

ويبدو جو كان، المحرر الدولي بـ«النيويورك تايمز» أكثر تفاؤلا. وأكد في رسالة بريد إلكتروني قائلا: «إن الوضع لا يجعلك تشعر بأنك في عصر ذهبي في اللحظة الراهنة (هل هناك أي عصر يضفي عليك إحساسا بأنه عصر ذهبي إذا كنت تعيش فيه؟)». وأردف قائلا: «لكن، إذا تعين علينا العيش في عصر من هذا القبيل، فإننا بحاجة إلى مزيج يجمع بين الصحافة التقليدية والمهنية المتخصصة التي ظهرت في حقبة ما بعد الحرب والصحافة الرقمية العامة التي توافرت للجميع في السنوات القليلة الماضية مع ما نملكه من حظ».

نعم، ولكن...