تلك السنة الصفر

TT

«السنة الصفر: تاريخ العام 1945»، كتاب آخر عن الحرب العالمية الثانية. لا شيء، سوى الأفلام الوثائقية القديمة، يمكن أن تعطيك فكرة عمّا كانت عليه برلين ولندن ووارسو وهيروشيما، وبقية المدن في آسيا وأوروبا. خرج الإنسان في كل مكان على خصمه وعدوه وجاره، ومعه جميع أنواع الأسلحة التي اخترعها حديثا، فاستخدمها جميعا. طفقت ألمانيا الهتلرية تدمر كل ما أمامها، وإذ تنحسر الآن، يقصفها الحلفاء من الجو ويزحف عليها السوفيات برا. البريطانيون يقصفون في النهار، والأميركيون في الليل. مليونا طن من المتفجرات رمى الحلفاء فوق مدن ألمانيا، فحوّلوها إلى ركام يتصاعد معه الدخان والأنين ورائحة الموت. كان هناك 42.8 متر مكعب من الركام لكل مواطن في مدينة درسدن.

يقول أيان بوروما في «السنة الصفر» إن أكثر ما أرعب الزائر، في الأشهر الأولى لنهاية الحرب، الصمت المطبق الذي يخيم على كل شيء. المباني التي لم ترمَّد تماما كانت نوافذها فارغة وبلاطها محفورا من شدة الانفجارات. لم تعد هناك أرصفة لأنها غُطّيت بالركام. ومن بقي حيا راح يبحث بين الأنقاض عمن بقي حيا تحتها، أو عن شيء يأكله. في الليل، كانت الناس تمشي وسط الطرقات على ضوء الشموع، خوفا من أن تنهار عليهم الأبنية المتداعية. السيارات المدنية والعسكرية صارت حديدا ملتويا أو بقايا حديد ذائب. في 8 مايو (أيار) 1945، جاء ضباط هتلر يوقعون اتفاق الهزيمة. كان الفيلد مارشال فيلهلم كيتل الضابط الذي سيوقع مع الروس، فقال وهو يمسك بالقلم والورقة، إن مشاهد الدمار التي رآها في برلين زرعت في نفسه الرعب والأسى.

قال له الضابط السوفياتي: وأي نوع من المشاعر زرعت في نفسك مشاهد آلاف القرى الروسية التي مُحيت بناء على أوامرك؟ أي مشاعر خامرتك وأنت تعرف أن الملايين، بمن فيهم الأطفال والنساء، طمروا تحت ذلك الركام؟ رفع كيتل كتفيه ولم يجب!

50 إلى 70 مليون إنسان قتلوا في الحرب التي بدأها أدولف هتلر. ملايين المشردين. الملايين ممن فقدوا كل شيء في الحياة، كل شيء. لكن الفيلد مارشال كيتل لم يرَ سوى مشاهد الركام في برلين.

صحيح، كان محزنا ما جرى للمدينة الجميلة، التي كانت قبل أحلام هتلر المريضة، إحدى أجمل مدن العالم. وها هي تعود كذلك اليوم. أرض من الخضرة والحدائق والأزهار. لكي تعرف الفرق بين الحرب والسلم، يجب أن تذهب إلى برلين اليوم ومعك كتاب من الكتب التي صدرت بعد الحرب، مثل ذلك العمل الأدبي الذي لا يزال صاحبه، أو صاحبته، مجهولا؛ «امرأة في برلين».

نحن، شهدنا شيئا من هذا في بيروت. فعندما توقف القتال في تلك العروس المتوسطية، بدت مثل حي من بقايا برلين. دمرها القتلة ومشوا. باعوا رمادها، وباعوا حجارتها، وباعوا الجثث التي لا يعرفون أسماء أصحابها.

لا يكف الإنسان عن نشر الطاعون، والمتاجرة به. كل قاتل يتصرف مثل الفيلد مارشال فيلهلم كيتل؛ لا يروعه سوى الموت الذي يراه في حارته. قتلاه شهداء، وقتلى غيره عملاء. والمدينة إما أن تكون حرثه.. أو أن تدمَّر.