أبيض وأسود

TT

العلم يؤكد أن لكل فعل رد فعل مساويا له. وما بين الأفعال وردود الأفعال كدت أضل طريقي إلى الصدق رغم يقيني بأن الصدق منجاة من كل شر.

منذ وصولي إلى القاهرة اكتشفت سريعا أن المواعيد وانضباطها آخر هموم القاهريين. وما بين الدهشة والإحباط والغضب الذي ينسكب كالنحاس المصهور اكتشفت أن الحادية عشرة صباحا تترجم في المعاملات إلى الحادية عشرة والنصف وربما الثانية عشرة وما بعدها. وإذا عبرت عن احتجاج علق المذنب الاتهام في عنق زحمة المرور. وبطريقة لا شعورية بدأت أوظف أدواتي الدفاعية على القريب والغريب. فإن كنت على موعد عمل مهم في الحادية عشرة أخبرت السائق بأن الموعد هو العاشرة حتى إذا ترجم العاشرة بلغة المواعيد المصرية أصبحت العاشرة والنصف أو الحادية عشرة. ولم أفكر كثيرا في اختيار تلك الاستراتيجية على حساب الحقيقة إلا بعد أن وصلت إلى عيادة طبيب الأسنان بعد الموعد المحدد لعلاجي بساعة نظرا لتأخر السائق وإحساسه الواضح بأنني امرأة تعمل من الحبة قبة كما يقال.

غير أن الحياة أبت أن تبقيني سجينة افتراض جائر. فقد ساقتني الظروف إلى حيث اكتشفت أن الأبيض أبيض والأسود أسود بالفعل، ولكن لا يمكن إنكار ما بينهما من درجات وظلال وفقا لزاوية الرؤية ومصدر الضوء.

فقد ساقتني الظروف إلى شرم الشيخ بعد غياب يقارب خمسة عشر عاما. وهناك لقنتني التجربة درسا. فقد وصلت الطائرة في الموعد. ثم بدأت إجراءات الوصول بانضباط تام وكفاءة متواصلة في صالة نظيفة واسعة. وبعد إتمام الإجراءات كان السائق المكلف بنقلنا إلى الفندق بانتظارنا في الموعد المتفق عليه.

في الفندق تعمق إحساسي بالارتياح والسرور. فقد كانت الخدمات الفندقية على مستوى عال من الانضباط، علما بأن الفندق يديره مصري، وأن موظفي الاستقبال وعمال النظافة مصريون يلقونك بابتسامة ويخاطبونك بلغة مهذبة.

بدلت تلك الزيارة مفهومي الجائر عن الطبع المصري، ودفعتني للتفكير في قضية الطبع والتطبع. فالطبع هو جزء من برمجة جينية تولد معنا. أما التطبع فهو تأثير البيئة ومنظومة القيم والأفكار والسلوكيات التي تفرضها ظروف الحياة في مجتمع بعينه. ووصلت بتفكيري إلى أن المساحة بين الطبع والتطبع هي مساحة يمكننا أن نمارس فيها إرادة إنسانية حرة تتبنى ما هو أفضل وترفض ما هو مناف للأصول.

لا أبالغ إن قلت إن الأيام الثلاثة التي أمضيتها في شرم الشيخ كانت من أسعد أيام الصفاء والسرور. كنت أنظر إلى تنسيق الحدائق بإعجاب، وأنظر إلى مياه البحر الأحمر بعين المحب الذي يشكر النعمة، وأتناول الطعام بتقدير لمهارة الطاهي وكرم البحر الذي يجود بثماره بسخاء. وأسعدني أن أسترد الإحساس بأن مصر بخير ما دمنا نتمسك بالأمل وبتأثير الظروف التي تطلق الإرادة الإنسانية صوب الرضا والكرامة حين يشعر المصري بأن كرامته محفوظة ومهاراته تلقى التقدير واحتياجاته متوافرة بلا مذلة.

في الطريق إلى المطار لبدء رحلة العودة إلى القاهرة قلت إن شرم الشيخ تغيرت منذ زيارتي السابقة، وإن السياحة هنا أفضل بكثير من السياحة في أوروبا من حيث التكلفة ونوع الخدمة وجودة الطعام. فتطوع السائق بالقول إن إقامة الرئيس الأسبق حسني مبارك في شرم شجعت المستثمرين فتطورت شرم الشيخ وأصبحت جاذبة للسياح الأجانب.

أمسكت عن الكلام لعلمي بأن ما قاله فيه عنصر من الحقيقة، وأن هذا العنصر من الحقيقة لا علاقة له بما ينسب للرئيس الأسبق من أخطاء. وإذا كانت العبرة بالنتائج فإن إقامته في شرم الشيخ أدت إلى بناء الفنادق وتدريب الكوادر وتنشيط السياحة بحيث فتحت أبواب الرزق لمئات من الشباب. وبما أن اقتصاد مصر يعتمد اعتمادا أساسيا على قطاع السياحة فإن إقامة حسني مبارك في شرم الشيخ أدت بأسلوب غير مباشر لإنعاش الاقتصاد.

أمسكت عن الكلام خوفا من أن أتهم بأنني أنتمي إلى الفلول. ولكن كفى أن أقول إن زيارتي القصيرة إلى شرم الشيخ أقنعتني بأن عدم الانضباط ليس مرضا يولد معنا، وإنما هو ظاهرة مرضية يمكن التخلص منها إذا تغيرت الظروف المسببة لها. كما أقنعتني أيضا بأن الأبيض أبيض والأسود أسود، ولكن يجب ألا ننسى ما بينهما من ظلال.