الأطباء.. والثقافة المالية لاقتصاد تقديم الرعاية الصحية

TT

في تعاملهم مع مرضاهم، لا يزال بعض الأطباء يعيشون في حالة من الانفصام عن واقع «متطلبات وتكاليف وإدارة» عمليات تقديم الرعاية الطبية للمرضى. وهذه الحالة مبنية على قناعة، لا يعرف على وجه الدقة مصدرها، مفادها أن دور الطبيب في خدمة المريض لا علاقة له بتفهم العمليات الإدارية واللوجيستية والتشغيلية المعقدة التي تجري في المستشفى، في محاولة تهيئة أفضل الفرص والظروف لإتمام عملية معالجة المرضى بأسلوب يتميز بالجودة في الأداء على كل مستويات العناية بهم، وضمان أعلى درجات سلامتهم وسلامة العاملين بالمستشفيات، والاستخدام الأمثل للموارد الطبية والمالية والبشرية والتقنية التي يتم توفيرها في المستشفيات، والعمل وفق تخطيط مستقبلي لتطوير خدمة وعلاج المرضى بما يستوعب ثلاثة عوامل: ارتفاع سقف توقعات المرضى، والتطور المتواصل في علم الطب، والزيادة المضطردة في أعداد المرضى وأنواع أمراضهم. وما يلخص الأمر برمته هو استيعاب الطبيب لحقيقة حجم وأبعاد «مسؤوليته» بوصفه لاعبا أساسيا في نجاح إتمام تقديم رعاية طبية متكاملة وشاملة للمرضى.

ولتركيز الحديث في جانب واحد من حالة الانفصام هذه لدى بعض الأطباء، دعونا نعرض موضوع «مستوى الثقافة المالية لاقتصاد إدارة تقديم الرعاية الصحية للمرضى» لدى الطبيب. وليس تهكما القول بأن بعض الأطباء برعوا في جانب واحد منه وهو التقييم الأفضل لثمن تقديمهم الرعاية الطبية للمرضى، وبغض النظر عن تلقيهم إياه أو عدم ذلك، إلا أنهم تركوا جوانب أخرى مهمة في اقتصاد إدارة تقديم الرعاية الصحية للمرضى، واعتبروها مما لا علاقة لها بهم، بينما هي في الحقيقة من صميم «مسؤولية» عملهم تجاه مرضاهم، خصوصا وأن تطور الطب مبني على المقارنة باستكشاف أفضل وسائل التشخيص والمعالجة وأكثرها جدوى للمريض.

وبعيدا عن الحديث حول «الجدوى الاقتصادية» للتسويق الدعائي الأجوف لعمليات جراحية أو تدخلية لحالات مرضية أو تجميلية مختلفة، ومحاولات إقناع المرضى بالخضوع لإجرائها دونما أدلة علمية ثابتة وإرشادات طبية عالمية واضحة ودونما حاجة ماسة لدى المرضى إليها ودونما ضمانات لاستفادتهم منها مستقبلا، هناك جوانب أخرى أكثر إلحاحا وشيوعا وهي عرض الخيارات المتاحة لعلاج الأمراض أو تشخيصها مع ذكر الجوانب المتعلقة بتكاليفها المادية ضمن عناصر مناقشة تفضيل وسيلة على أخرى في المعالجة أو التشخيص.

وضمن عدد 17 أكتوبر (تشرين الأول) من مجلة «نيو إنغلاند الطبية» New England Journal of Medicine ناقش مجموعة من أطباء جامعة ديوك الأميركية العريقة ضرورة اعتبار الأطباء للتكلفة المادية كأحد «الآثار الجانبية» side effects ذات «تأثيرات مادية سامة» financially toxic effects، على حد وصفهم، عند مناقشة الأطباء خيارات المعالجة مع المرضى. وأشاروا إلى أن عدم اعتبار هذه الأمور جزءا من المناقشة مع المرضى، يعرض المرضى لمتاعب مالية قد تضر بكفاحهم للمحافظة على صحتهم. وقالوا: «بما أن الأطباء غالبا لا يثيرون جانب التكلفة المادية في النقاش قبل اتخاذ القرار حول طلب فحوصات معينة أو اتباع وسائل علاجية، فإن المرضى قد يواجهون آثار تلقي فواتير مالية مرهقة، وفي نفس الوقت يمكن تفاديها. ولذا فإننا نحث الأطباء على استحضار التبعات المالية لخيارات المعالجة المتنوعة وإخبار المرضى عنها ضمن قائمة الآثار الجانبية لتلك الفحوصات أو الوسائل العلاجية». وأضافوا أن على الأطباء اعتبار الحديث حول الجوانب المالية ضمن مهامهم المعتادة، واستطردوا بأنه يجب تدريب الأطباء كي يفهموا بشكل أفضل تكاليف الخدمات العلاجية أو التشخيصية التي يقدمونها لمرضاهم.

وقال أطباء جامعة ديوك إن «المؤسسة القومية لمناصرة المرضى» National Patient Advocate Foundation بالولايات المتحدة ذكرت أن ثلثي حالات إشهار الإفلاس الشخصي في الولايات المتحدة هي بسبب الديون الطبية، وأن كثيرا من العوائل تواجه استحقاقات دفع فواتير طبية عامرة من أجل معالجة شخص عزيز عليهم. ولاحظت بعض الدراسات الطبية السابقة أن أكثر من نصف المرضى يودون لو أن أطباءهم يناقشون معهم التكاليف المادية لخيارات معالجتهم، ولكن لا ينال ذلك سوى 19% منهم. واستطردوا بالقول: «صحيح أن المرضى يرددون أنهم يرغبون في الحصول على أفضل خدمة طبية إلا أن الربط بين مستوى الخدمة وتكلفتها المادية يظل في أذهانهم».

ومن هذه الملاحظات وغيرها، يظل الهاجس المادي لتكلفة المعالجة أمرا يستحق من الأطباء توسيع معرفتهم بجوانبه. وسواء كان لدى الشخص تأمين طبي أو لم يكن، فإن التأمين لا يغطي بالكامل جميع التكاليف، والتأمين الطبي أيضا له سقف إذا تجاوزته تكلفة معالجة المريض ترجع مسؤولية السداد على المريض نفسه. وبتوسيع دائرة النظر إلى الأمر، وحتى في المستشفيات ذات الخدمات المجانية للمرضى، ثمة حاجة لاستشعار الطبيب دوره ومسؤوليته في المساهمة بضبط استخدام الموارد المتاحة له عبر ترشيد طلب الفحوصات الطبية أو أنواع المعالجة وفق الإرشادات الطبية المبنية على البراهين العلمية، لأن موارد المستشفى لها سقف محكوم بالميزانية السنوية المخصصة لها والتي تهدف إلى تحقيق الاستفادة المثلى منها نحو توفيرها لأكبر عدد ممكن من المرضى دون تدني مستوى الخدمات المقدمة لهم.

وما لم يتفهم الأطباء التكاليف المادية تلك ويتم وضع برامج لتقييم الاستفادة المثلى من الموارد، فإن حالة الانفصام تلك ستستمر بشكل مؤثر على معالجة عموم المرضى طوال العام ولجميع الحالات.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]