الرحّالة الكذابون

TT

حفلت السنوات الأخيرة بحركة نشر واسعة لأدب الرحّالة الغربيّين. لعلَّني أسهمت أوائل الثمانينات بالتذكير بهذا النوع من الأدب، من خلال «قافلة الحبر». وقد كنت أنوي أن أضع سلسلة تشمل المغرب ومصر والجزائر والعراق وسوريا، لكنني قصَّرت في ذلك واكتفيت بدوري كقارئ. إلى الآن أجمع من هذه الكتب ما أستطيع، فيما أتابع ما يصدر منها، أو عنها، في الترجمات العربية. معظمها، أو معظم ما قرأت، مستعجل، وليس على معرفة كافية بموضوعه، وقد وقعت في ذلك في «قافلة الحبر»، فكان أن أخطأت في نقل بعض أسماء العَلَم والمواقع.

من أرقى إصدارات هذا العام «روايات غريبة عن رحلات في شبه الجزيرة العربية» للأستاذ عبد العزيز عبد الغني إبراهيم (دار الساقي). أبرز ما في العمل الضخم أنه يعود إلى بدايات غير معروفة، منذ عام 1500. هو لا يكتفي بمناقشة مشاهدات الرحّالة، بل يعرض جزءا وافرا للكذابين منهم. أي أولئك الذين ادَّعوا الترحّل في الجزيرة العربية والوصول إلى مكَّة، وهم في الواقع لم يخرجوا من قراهم. ومما يورده عن تأثر الغربيين بسحر الشرق وأساطيره أن دانيال ديفو (1661 – 1731 م) وضع رائعته الكلاسيكية «روبنسون كروزو»، ناسخا قصّة حي بن يقظان لابن الطفيل (1106 – 1185)، ويشير إلى أن ديفو أمضى جزءا من حياته في إسبانيا. ربما ليقول إن «ابن يقظان» وصلت إليه من آثار الأندلس.

الحيِّز ضيِّق هنا للمقارنة بين العملين وأسلوبي ونهجي المؤلفين. لكن قد تكون هذه من هفوات عمل شديد الجديَّة والأهميّة. على أن الباحث يفصِّل لنا ما أهمل الرحالة ذكره. وهو مدى اعتمادهم على التراث العربي في تسجيل رحلاتهم. يعطي مثالا على ذلك البريطاني ريتشارد بورتون، الأكثر جرأة وإنتاجا وإثارة للجدل، وقد كان مستعربا ترجم «ألف ليلة وليلة». لكن الكتاب كان قد تُرجم إلى الفرنسية من قبل (1704)، ورافقت حكايته الرحالة في مغامراتهم. فطالما تلمح أثر «السندباد البحري» أو «علي بابا والأربعين حرامي».

على هذا كان الشرق الذي رسمه الحالمون لا وجود له في الشرق. فالشواطئ لا تتضوع عطرا، والبخور ليس في كل مكان، ومكّة المكرّمة ليست مليئة بالحدائق الخضراء والبساتين.

تداخل الاستكشاف بالاستعمار، وكان غرض البرتغاليين بصورة خاصة تنصير منطقة الخليج، لكن وجودهم لم يطل في المنطقة. لم يبقَ من آثارهم سوى القليل، خصوصا في عمان، التي ألهبت مخيلات الرحالة أكثر من سواها. ظل الأمر كذلك إلى أن وصلها البريطاني تسيغير قادما من الربع الخالي. ممتع عمل عبد العزيز إبراهيم، ومرجعي أيضا. بقدر ما أنا مطّلع، فهو الأكثر شمولا في هذا الباب، وإذ حفلت الرحلات نفسها بمشقة واضحة، نرى أن المؤلف بذل جهدا شاقا أيضا في نقد المادة الهائلة المتوافرة لديه. وفي أي حال، إنها لرحلة ثقافية تاريخية ممتعة، منها نعرف أن أسطول صيد اللؤلؤ كان يتألف من 3230 قاربا، منها 2430 قاربا للبحرين، 340 قاربا لرأس الخيمة، و300 قارب لأبوظبي. بحر من الشقاء.. واللؤلؤ.