تحدي النزاع السوري للخصوصية اللبنانية

TT

هل فقد لبنان «الدولة» مبرر وجوده الكياني والسياسي على خريطة الشرق الأوسط؟

هذا ما توحيه اليوم تصريحات - والأصح تهديدات - بعض السياسيين اللبنانيين القلقين على مصير النظام السوري أكثر بكثير من قلقهم على مصير وطنهم وأبناء وطنهم.

يصعب على أي مراقب للشرخ الولائي المتسع باطراد بين اللبنانيين، والمقترن بخلفية مذهبية صارخة، أن يطمئن إلى استمرارية الدولة اللبنانية ككيان جغرافي قائم في المنطقة – بصرف النظر عن درجة استقلاله أو سيادته - في وقت تتحول فيه أزمة «هوية» الشرق الأوسط بأكمله إلى امتحان عسير لكياني سايكس - بيكو الرئيسين: سوريا ولبنان.

بعيدا عن أي ادعاء بأن اتفاقية سايكس - بيكو عكست واقعا ديموغرافيا (ولا نقول قوميا) متجانسا في كل من سوريا ولبنان، فقد كانت، بالنسبة للبنان على الأقل، نطاق ضمان للساحة الديمقراطية شبه الوحيدة في المنطقة. وإذا كان لا يصح اعتبار الكيان اللبناني المنبثق عن خريطة سايكس - بيكو مثالا يحتذى للدولة الديمقراطية وللنظام الملتزم شرعة حقوق الإنسان، فذلك لا يلغي دورها في الحفاظ، قدر المستطاع، على التعددية المذهبية والإثنية للمجتمع اللبناني.. وإن في إطار هش من التعايش والتجاور.

ولكن بقدر ما كان كيان سايكس - بيكو إطار ضمان لتعددية المجتمع اللبناني، شكلت هذه التعددية قاعدة ثابتة لديمقراطيته التوافقية بحكم كونها ديمقراطية تراعي خصوصية لبنان الاجتماعية والمعتقدية، وتحول بما ملكته من ضوابط دستورية دون هيمنة شريحة مذهبية ما على غيرها، ودون تفرد فئة سياسية ما بمقدرات البلاد.

على هذا الصعيد، يمكن الحديث عن تطابق وتماثل بين كيان سايكس - بيكو الجغرافي والديمقراطية التوافقية في لبنان، وهو تطابق يثير تخوفا مبررا من أن تؤدي زعزعة قواعد كيان سايكس - بيكو إلى «قلب الطاولة» على جميع اللبنانيين، وليس على بعضهم كما يدعي منظرو حزب الله.. ما لم يتوافق اللبنانيون على بديل سياسي لديمقراطيتهم المهددة تكون قابلة للصمود في مواجهة تحديات المرحلة، علما بأنها الأسوأ في تاريخ المنطقة منذ «قيام» الكيان الإسرائيلي عام 1948.

«في انتظار غودو»، (بالإذن من الأديب الآيرلندي صموئيل بيكيت)، يبدو اقتراح رئيس الجمهورية، ميشال سليمان، العودة إلى سياسة النأي بالنفس عن نزاعات المنطقة، وخصوصا النزاع السوري «المتلبنن» باطراد، وصفة تبريد مجدية للغليان السياسي والفلتان الأمني اللذين تشهدهما حاليا الساحة اللبنانية. ولكنها تظل علاجا مؤقتا لعلة مزمنة في لبنان: تداخل العامل الطائفي مع أي رؤية سياسية خالصة لنظام الحكم الأجدى لمجتمعه التعددي.

مؤسف أن «لغة الكلام» التي تعطلت في لبنان، منذ أن تحول السلاح إلى رقم مؤثر في المعادلة السياسية الداخلية، هي لغة التخاطب السياسي الهادئ.

في مناخات لبنان الراهنة، وبحكم طغيان لهجة التخاطب الميليشياوية على ما عداها من وسائل تواصل حضاري، أقصى ما يمكن توقعه من أي دعوة لـ«حوار وطني» جدي قد يكون تأجيج لغة التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.. ما لم يخضع بعض اللبنانيين لإرادة البعض الآخر بصرف النظر عن المصلحة اللبنانية العامة.

شعار «لا غالب ولا مغلوب»، على علاته، لم يعد واردا في قاموس السياسة اللبنانية رغم أنه شكل، في سنوات الاستقلال الأولى، مخرجا «نفسيا»، وإن غير مقنع، من حالات الاحتقان الدورية التي مر بها نظام الجمهورية اللبنانية.

وإذا استمر الحال على هذا المنوال في لبنان المأزوم أصلا، قد يذكر التاريخ يوما أن ما دفعه النظام السياسي اللبناني من ضريبة باهظة للنزاع السوري يفوق ما دفعته سوريا وما تكبده السوريون: انهيار آخر موطئ قدم واعد للديمقراطية والحريات الفردية في الشرق الأوسط العربي.