نعم.. (بدعة التكفير).. جناية تعاقب عليها الشريعة

TT

(أداة الطرح) الحسابية - 9 ناقص 3 مثلا - إذا استخدمت في الحكم على (إسلام) المسلمين، فإن حاصل الطرح سيهبط من خانة الآحاد والجموع الصحيحة إلى (خانة الصفر): هذا مسلم عاص فلنطرحه من الحساب.. وهذا مسلم زان.. وثالث شارب خمر.. ورابع آكل ربا.. وخامس نادى بفكرة قد تؤدي إلى الفساد.. هؤلاء جميعا كفرة فلنطرحهم من الحساب ولنخرجهم من الملة إخراجا.

لا ريب في أن هذا منزع غير واقعي من جهة، إذ إن معظم المسلمين في العصور كافة لم يتطهروا بالكلية من هذه المعاصي والكبائر والآثام.. ثم إن هذا المنزع - من جهة أخرى - إنما هو منزع مضاد - مضادة كاملة - لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في (الاكتراث الكمي) بمجموع المسلمين فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أحصوا لي كل من تلفظ بالإسلام)).. ومن مفاهيم هذا الحديث:

أ - حسبان كل من تلفظ بلا إله إلا الله محمد رسول الله مسلما من أمة الإسلام.

ب - إعلاء قيمة (اللفظ) للدخول في الإسلام.. ونقفي على هذا المفهوم الجليل الجميل (مفهوم أداة الجمع من خلال العد والإحصاء) بمفهوم آخر عميق جميل أيضا: مفهوم أن الإسلام (منهج جذب وضم) لا (منهج طرد وطرح). ولذلك جاء أمر الرسول ((أحصوا لي)).. وفي رواية ((اكتبوا لي كل من تلفظ بالإسلام من الناس)).. فالكم العددي معتبر في الإسلام، وذلك لأهداف كثيرة منها: معرفة من هو على الإسلام بمجرد النطق بالدخول فيه وتقرير الأحكام وفق ذلك.. هذه واحدة، والأخرى هي: الاستيثاق من الرصيد البشري المسلم الموجود: ابتغاء توظيفه في البناء المدني، وفي خطط الدفاع.

إن السطور الآنفة ليست إلا مدخلا إلى المقصد الأعظم. فقد بعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتحقيق مقاصد عظمى: أولها وأعلاها - بإطلاق -: مقصد إقناع الناس - بالحسنى - بالدخول في الإسلام.. ومن هنا فإن الدعوة الصحيحة الحقة - في كل عصر - هي: إدخال الناس في الإسلام عبر الإقناع الحر: بالحجة القوية الساطعة، والأسلوب الهادئ اللين الرفيق.. أو تثبيت الناس على الإسلام إذا دخلوا فيه.. وليس من أهداف الدعوة إلى الله: إخراج الناس من الإسلام.. فهذا الإخراج حقيق بأن يسمى (الصد عن سبيل الله).. هيهات هيهات أن يكون ذلك من الإسلام. فالنقيضان لا يجتمعان!!

فإذا تعجل امرؤ - ممتلئ سخطا وهيجانا - إلى تكفير مسلم: لم يكن من الداعين إلى الله على بصيرة كما أُمر الرسول وأتباعه بذلك: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)).. وهناك ما هو أظلم وأخوف، بمعنى أن المتسرع بالتكفير يخشى عليه المصير نفسه، أي أن يصبح هو نفسه كافرا. فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه))، أي ارتدت عليه دعواه التي ادعاها على أخيه وهي الكفر.

وهذا حق كله.. منطقي كله.. هدى كله.

فالنبي بعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور: ((ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)).. فبأي فقه، وأي عقل، ولأي هدف وغاية يُنكّس هذا المنهج ويُقلب فيصبح هدف الدعوة: إخراج الناس من النور (أي الإسلام) إلى الظلمات، أي الكفر؟!!.

في وضوح مثل السنا، وبعبارة علمية دقيقة، وفي أمانة وورع وبحرص بالغ على بقاء المسلم في دائرة الإسلام، قال الإمام أحمد بن حنبل: ((ولا يُكفَّر أحد من أهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر.. ومن مات من أهلة القبلة موحدا نصلي عليه ونستغفر له ولا نحجب عنه الاستغفار. ومن زعم أنه كافر فقد زعم أن آدم كافر، وأن إخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار)).

وعبارة الإمام أحمد هي ذات العبارة التي نجدها - بنصها - في عقيدة الأحناف والمالكية والشافعية.

وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة جميعا في هذه المسألة الدقيقة.. والغريب أن (مكفراتية) عصرنا هذا يزعمون أنهم على منهج السلف الصالح.. وقد تأكدتَ آنفا أن المنهج الحق ضد مزاعمهم بإطلاق.

وإنما استند منهج الحق، واستمد هداه وحجته من الكتاب والسنة:

أولا: الكتاب. قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا)).. وسبب نزول هذه الآية: أن رجلا من بني سليم يرعى غنما له: مر بنفر من أصحاب النبي فسلم عليه فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه فنزلت الآية بالكف عن التأويل الخاطئ، والتسرع في التكفير.

ثانيا: السنة.. قال أسامة بن زيد: لحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا من جهينة فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري، وطعنته فلما قدمنا المدينة بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((يا أسامة قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله. فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة. قال أسامة: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)).

وفي ضوء الاهتداء بمنهج الإسلام:

1 - قال الإمام النووي - من أعلام الشافعية -: ((إن مذهب أهل الحق أن لا يكفر المسلم بالمعاصي)).

2 - وقال الإمام ابن عبد البر - من أعلام المالكية -: ((كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع المسلمين، ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلا فاختلفوا في ذلك: لم يكن لاختلافهم معنى يوجب حجة. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أحدا لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام. وخالف المسلمين في ذلك أهل البدع)).

3 - ويقول الإمام ابن تيمية - من أعلام الحنابلة -: ((ولهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي. ومن شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه، وأهل السنة لا يبتدعون أقوالا، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مخالفهم، مكفرا لهم، مستحلا لدمائهم)).

ونتم هذا المقال بنقطة تتعلق بتعظيم كلمة التوحيد.. فقد يظن ظان: أن الغيرة على التوحيد هي التي تدفع المسارعين إلى التفكير في الحكم على مسلمين بالكفر.

وهذه الغيرة من الوهم!!

لماذا؟

لأن التعظيم الحق لكلمة التوحيد يثمر - بلا ريب - البراءة التامة من تكفير قائلها.

ما مناسبة هذا المقال: مناسبته أن هناك عشرات في السعودية، من الذين أدمنوا (تكفير) مسلمين يتعرضون الآن للملاحقة والمساءلة.. ثم العقاب!!

وهذا ملف ينبغي أن يظل مفتوحا، لأن الإيمان بالله حق من حقوق الإنسان لا يجوز أن يتهتك، ولأن بدعة التكفير هذه: إجبار على الكفر، ولأن المكفراتية يتوجب أن يظلوا خائفين من العقاب الحق.