في العراق.. إذا ظلمتم فاضحكوا..

TT

لماذا لا يتعلم السياسيون العرب من التاريخ، سواء الحديث أو المعاصر؟ سؤال أعاده إلى ذهني لقاء لبعض الساسة العراقيين في الكويت. الثابت لديهم في المناقشة، أن ما يحدث من قتل وتدمير في العراق اليوم هو بسبب خارجي! وأن العراق سوف يظل عراقا موحدا مهما حدث من تطورات تعمق الشق الفئوي! تلك قناعة دافعوا عنها، وفي تقديري أن الدفاع، أكان بوعي أو بغيره، هو دفاع المصالح التي يتمتع بها الساسة العراقيون اليوم، وقربهم من كرسي الأمر والنهي، ولكن ليس له علاقة بمسيرة التاريخ.

هم خير من يعلم أن كرسي صدام حسين بدا ثابتا ثبوت الجبال، أما سياساته فقد انحدرت إلى أن أوصلته إلى حبل المشنقة، وتفاصيل الرحلة السوداء كلها مغروسة في أذهان العراقيين لا يحتاج أحد أن يذكرهم بها. كان صدام حسين ومن في قربه يستغربون صلابة أعضاء حزب الدعوة وقتها، وكيف أنهم ثابتون - حتى في المعتقلات - على موقفهم، حيث لم يعد لديهم شيء يخسرونه! كان المالكي في المنفى مسؤولا عن مكتب الجهاد، الذي كان خلف تلك الصلابة! اليوم قال أحد محدثي: «لقد قبضنا على بعض الأشخاص ممن لهم علاقة بالتفجيرات، فلم ينكر، قال إنه يعمل ذلك من أجل الذهاب إلى الجنة! بدا محدثي مستنكرا أو يرغب في أن يثير التعاطف مع الضحايا ضد أهل (التفجير والتفكير)».

مع اعترافي بأن هناك مكونا ثقافيا وآيديولوجيا وأيضا عوامل أخرى متعددة، تجعل من مسلسل القتل في العراق مذموما وفي نفس الوقت مستمرا، إلا أن هناك مكونا سياسيا، فشل الساسة العراقيون، خصوصا من هو منهم في الحكم، في التعامل معه، ويبدو أن حالة إنكار (صدامية) قد التبستهم. هناك عوامل جذب (ثقافية) إن صح التعبير، تدفع للالتحاق بالمخربين، ولكن العوامل الأكثر تأثيرا هي عوامل (الدفع) التي تلقي بعراقيين إلى مكان ما للتضحية بأنفسهم، وهي نفس قوة عوامل الدفع التي كانت تحت يد صدام حسين! وجعلت حزب الدعوة وأحزابا أخرى تواجه عقلية التهميش والإقصاء الصدامي بروح انتحارية!!

السيد نوري المالكي، هو رئيس وزراء ووزير داخلية ووزير دفاع! وقابض تقريبا على كل مفاصل الأمن العراقي والمال العراقي أيضا في ثماني سنوات من عشر، هي فترة الاحتلال والخروج الأميركي من العراق. بالطبع قد يتجاوز البعض هذه الهيمنة لفترة، لكن السيد المالكي أيضا يريد أن يقبض على السلطة من طريق التجديد الثالث، والوضع السياسي ينحدر إلى الأسوأ. فإن لم يكن هناك حل سياسي لمعضلات العراق في الثماني سنوات السابقة، كيف له أن يوفره في الأربع القادمة!

لقد وجد المالكي أن إلقاء اللوم على تنظيم القاعدة في تفجير المقاهي والحسينيات والمساجد والتجمعات، وأن إزاحته من على كرسي الحكم (مؤامرة خارجية) وجد أن الحجتين قد تبرئان نظامه من تقديم إصلاحات مستحقة للشعب العراقي بكل مكوناته، ونسي أنه قد بنى مقاومته لصدام حسين على مظلومية الطائفة التي ينتمي إليها، الفرق أن صدام حسين كان شره عابر للطوائف، أما المالكي فقد تجاهل الحقوق السياسية لبقية الجماعات العراقية الأخرى، واستفرد بحكم العراق في شيء يشبه البارحة شكلا وحتى موضوعا، متكئا تارة على الفيالق وأخرى على العصائب وثالثة على الفصائل ورابعة على حزب يدعي علاقته بالله!!

يعتقد كثير من المطلعين على الشأن العراقي أن هناك شبكات اعتقال واغتيال محمية من أطراف في الحكم، وأن حكم القانون الذي بشر به، ولو بعد عشر سنوات من إزاحة نظام البعث، هو أقرب إلى الأحلام منه إلى الحقيقة.

لم يعد سرا أن قوى إيرانية عسكرية وسياسية تتدخل في العراق بقبول من الحكم القائم، بل هو أيضا يساعد على تمريرها برا وجوا إلى سوريا في معركة ضحيتها الأساس الشعب السوري. أمام قصر النظر السياسي الذي يصل إلى الاشتراك في حرب خارج العراق، بشكل مباشر أو غير مباشر، وحرمان قطاعات واسعة من الشعب العراقي في المشاركة السياسية النشيطة، هل ينتظر السيد نوري المالكي أن يتفوق بالقوة على جماعات متضررة من سياسته! وهو خير من يعرف أن البيئة الحاضنة للإرهاب هي أولا السياسات الفاشلة!

الفظائع التي نشاهدها في العراق يوميا هي حصيلة الفشل السياسي الذي بدا بالمحاصصة السياسية، ثم تغلب جماعة ثم سيطرة جماعة أصغر منها على الحكم في نهاية المطاف. تضيق على رقبة الشعب العراقي اليوم حلقتان تساند إحداهما الأخرى، الأولى الفساد، الذي لا يحتاج المتابع إلى إثباته فهو موثق بالأرقام من خلال المؤسسات الدولية، وتعبت الأقلام العراقية من ترديده، والحلقة الثانية هي العنف الذي يواجه بعنف مضاد أسالت له دماء العراقيين وما زالت. أصل ذلك التحلق هو الفشل السياسي، الذي تتحمل النخبة العراقية - خاصة من هم في السلطة اليوم - كل تبعاته.

سياسة تصنيع الخوف التي يمررها حكم المالكي بامتياز، حتى يقبل الآخرون مجبرين، إما استمرار الحكم وإما الفوضى، كانت سياسة امتهنتها كل الأنظمة الشمولية، من ليبيا إلى العراق البعثي إلى سوريا الأسد. وهي تتمثل في أن تمسكوا بما هو لديكم لأن القادم أعظم شرا، هذه الصناعة التي يرغب السيد المالكي للعبور بها إلى ولاية ثالثة، حتى لو سمع إطراء حولها من محازبيه، هي التي أودت إلى تفكيك البلدان حوله، ومن تبناها إما انتهى مقتولا أو مشنوقا أو في كل الأحوال محاصرا ينتظر نفس النتيجة أو مقارب لها.

الأصوات التي قابلت السيد المالكي في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، وكان منها ستة أصوات من الكونغرس الأميركي، عابرة للأحزاب، تدين بوضوح مساهمة حكم المالكي في تعميق الطائفية، والتي عكستها أصوات عراقية داخلية وأقلام عراقية حرة، موقف أعضاء الكونغرس يرسل رسالة إلى المجموعة القابضة على الحكم في العراق، أن المحاصصة والبكاء على مظلومية تاريخية للحشد والدعم لا تخلق وطنا حرا، خصوصا إن بنيت على مظلومية أخرى ونهب منظم للخزينة العامة، التي على ثرائها الوفير، تفقر المجتمع وتسلبه الأمل في حياة كريمة. إن الغائب الأكبر في العراق سؤال المستقبل، ودون العمل بجد على إصلاح الصدع الطائفي وبناء مؤسسات حديثة، لن يجاب على ذلك السؤال.

من هنا جاء الحديث مع أولئك الساسة العراقيين، الذين زاروا الكويت مؤخرا، إن وضع كل اللؤم فيما يحدث على طرف ثالث، مهما كانت قدرته أو تورطه، يجب ألا يعفينا من القول إن مجمل السياسات التي يتخذها أهل النخبة الحاكمة في العراق اليوم، المتمسكون بالسلطة بأي ثمن وبأي تحالفات، لن تخرج العراق، حتى بعد كل هذه السنوات العشر التي مرت منذ تخلص من النظام السابق، لن تخرجه ثقافة الإبعاد والتهميش والميليشيات والاعتقال من نفق يبدو أنه موغل فيه حتى الثمالة.

ومن يعتقد أن العراق ليس على طريق التقسيم فهو واهم، لأنه قد قسم بالفعل اليوم، على الأقل نفسيا ومصلحيا، وسوف تقود السياسة المتبعة إلى التقسيم الواقعي.

آخر الكلام:

... يقول معروف الرصافي في قصيدته التاريخية التي يحفظها طلاب العراق:

إن قيل إن بلادكم يا قوم سوف تقسم

فتحمدوا وتشكروا وترنحوا وترنموا!