أين موقعنا من الخريطة العقلية الجديدة للعالم؟

TT

في كل فترة زمنية من تطور المجتمعات البشرية توضع مقاييس لتصنيف الدول والمجتمعات، حيث بعد الحرب العالمية الثانية جرى تصنيف الدول بناء على الآيديولوجية المتبناة إلى الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز والحياد الإيجابي.

وكذلك جرى تقسيم العالم بناء على اقتصادياتها إلى الدول الصناعية المتقدمة، والدول النامية أو ما سمي بدول العالم الثالث، ودول العالم الرابع. بعد ذلك ومنذ نهايات القرن المنصرم وبداية القرن الواحد والعشرين، بدأ يظهر واضحا تصنيف جديد للعالم بناء على امتلاكها للعقول البشرية، بعد أن تبين بشكل لا لبس فيه أن الإنسان المبدع أو ما يسمى الكفاءات البشرية هي ركيزة التنمية الاقتصادية في العالم. كانت الولايات المتحدة لسنوات عديدة هي الدولة الأكفأ في استقطاب العقول البشرية من جميع أنحاء العالم، وذلك نتيجة لحقيقة بات متعارفا عليها أن أميركا لم تصل إلى ما وصلت إليه من قوة عظمى اقتصادية وسياسية في العالم، إلا على أكتاف المهاجرين الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم. وكان السبب الرئيس وراء ذلك هو البيئة المناسبة التي وفرتها الولايات المتحدة لهؤلاء المهاجرين، والتي تمثلت في الحقوق المدنية المتميزة التي كان يحصل عليها هؤلاء المهاجرون في التجنيس والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والتي بدورها تشجع على الإبداع والعمل، وظلت أميركا لفترة طويلة من الزمن وما زالت هي الحلم الذي يداعب أصحاب الكفاءة من المبدعين وذوي الخبرة والاختصاص في كل المجالات من كل أنحاء العالم.

وكان سير أميركا في هذا الاتجاه وانفتاحها على العالم هو الذي مكنها من أن تبقى هي المحور الرئيس على الساحة الدولية بعد نهاية ما اصطلح على تسميته الحرب الباردة، في الوقت الذي تعثر فيه تطور الدولة المنافسة لها في هذه الحرب وهي روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا) التي لم تفلح سياستها التنموية والتي تقوم على الانغلاق على الداخل وعدم الانفتاح على الأفكار الجديدة في العالم، في أن تظل منافسا للولايات المتحدة، وإنما أدت بها سياستها هذه إلى التمزق إلى جمهوريات. وأكثر من ذلك أن روسيا الحالية، وهي الجمهورية الأقوى بين هذه الجمهوريات، أصبحت تدور في فلك المعسكر الرأسمالي الذي تقوده أميركا.

بعد ذلك بفترة ظهرت العديد من الدول التي أصبحت تنافس الولايات المتحدة في هذه اللعبة، وأهمها كندا وأستراليا، ولذلك شهدت هذه الدول قفزة اقتصادية وتنموية. ومنذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد بدأت تتبلور خريطة عقلية جديدة للعالم، لم تعد الولايات المتحدة هي اللاعب الوحيد في الساحة، إنما دخلت عليها دول أخرى أصبحت تنافس في استقطاب العقول البشرية والكفاءات من كل أنحاء العالم، وإيجاد البيئة الملائمة لها للإبداع والإنتاج.

يقول الدكتور ريتشارد فلوريدا مؤلف كتاب «أزمة الابتكار الوشيكة في أميركا»: «الولايات المتحدة، التي عرفها العالم طوال أجيال بأرض الفرص والابتكار، على حافة خسارة ميزتها التنافسية. إنها تواجه، بالطبع، أعظم تحدياتها الاقتصادية منذ فجر الثورة الصناعية، ويتصل هذا التحدي، بدرجة قليلة، بتكاليف الأعمال، وبدرجة أقل بالتفوق التصنيعي، كما أن التهديدات التنافسية الرئيسة، لا تأتي من الصين ولا حتى من الهند». ويمضي ريتشارد في مقالته قائلا: «فقد بدأ ينتشر في العالم مخزون الكفاءات الكونية، والصناعات المتطورة ذات الهوامش العالمية التي طالما كانت في السابق حكرا على الولايات المتحدة ومصدرا أساسيا لازدهارها، إذ تستثمر مجموعة من الدول، ومن بينها آيرلندا وفنلندا وكندا وأستراليا ونيوزلندا، في التعليم العالي ورعاية المبدعين وإنتاج السلع الراقية من هواتف (نوكيا) إلى أفلام (سيد الخواتم). العديد من هذه البلدان تعلم من النجاح السابق للولايات المتحدة فيرى حشد الجهود لجذب الكفاءات والمواهب الأجنبية، بما فيها الكفاءات والمواهب الأميركية، وإذا استطاعت هذه الحفنة من الدول الصاعدة أن تسحب 2 في المائة إلى 5 في المائة من العاملين المبدعين من الولايات المتحدة فسيخلف ذلك أثرا هائلا على اقتصادها».

بدا واضحا من العرض السابق حقيقة أن الخريطة الجديدة للعالم تقوم على حقيقة أن الإنسان المبدع هو الورقة الرابحة في خطط واستراتيجيات المجتمعات الحديثة نحو التنمية، وذلك لأن كل الاختراعات الكبيرة تأتي من هذا الإنسان، فالإنسان هو صانع البرمجيات، وهو مستحدث المشاريع. والإنسان المعني بها هنا ليس هو أي إنسان، إنما هو الإنسان المبدع، صاحب الأفكار الجديدة، والذي يحتاج بدوره إلى بيئة مناسبة ترعاه لكي ينتج ويخطط ويعمل.

وإذا ما تساءلنا نحن هنا في مجتمعاتنا العربية: أين موقعنا من هذه المنافسة في استقطاب العقول والكفاءات البشرية؟ هل نستطيع، وبحكم واقعنا العربي حيث الحروب والصراعات التي أصبحت تطال حتى الكفاءات العلمية من أساتذة الجامعات والمفكرين والمبدعين، أن نكون طرفا في هذه المنافسة؟ وإذا لم نتمكن من أن نكون طرفا، فما هو البديل؟ هل تظل العقول العربية المبدعة وأصحاب الكفاءات خارج الوطن؟ هل تظل ظاهرة «نزيف الدماغ» العربي إلى ما لا نهاية؟ أسئلة مهمة تحتاج إلى إجابات. وبالمقابل إذا لم نستطع أن نكون كذلك فسوف يظل واقعنا العربي يراوح مكانه.

أعتقد أن أول حقيقة نواجهها، هي أننا لا نستطيع أن نكون خارج هذا الصراع؛ وذلك لأن هذا معناه أن يظل واقعنا العربي كما هو؛ لذلك لا بد أن نجد لنا موقعا في الخريطة الجديدة للعالم. لا بد من معرفة أنه رغم الظروف السياسية والاقتصادية التي يمر بها واقعنا العربي لن يشفع لنا ذلك أن نكون خارج حلبة الصراع! ولكن السؤال هنا: كيف يمكن أن يكون لنا دور في هذا الصراع؟ وما طبيعة هذا الدور؟ أولا يجب معرفة أن قدرتنا على استقطاب العقول البشرية محدودة، بحكم أننا سوف نكون الحلقة الأضعف في هذه المنافسة.