تصالح وإن لم يمنحوك الذهب

TT

خلال العقد الأخير سقط من الضحايا في العالم العربي أعداد مخيفة من القتلى والجرحى. ليس هنالك بلد عربي لم يدفع أهله الثمن من الحروب الداخلية أو الجماعات الإرهابية، عدا عن مسلسل الهجمات العسكرية الأجنبية. وأن تتفاوت أسباب الألم بين بلد وآخر لا يعني أن هنالك اختلافا في ما تخلفه هذه الأوجاع من رغبة في الثأر وعجز عن الغفران أو النسيان أو التسامح. وبين كل ما يعيشه المواطن العربي من حزن على ضحاياه، والدعوات المستمرة إلى تجاوز الاختلاف والأحزان لأجل وحدة ومصالحة وطنية، يحضر السؤال الصعب والأشد حيرة: هل يجب أن ننسى ضحايانا لنتصالح؟

صعوبة الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في تورطه في أكثر من مجال. إنها ورطة العاطفة الإنسانية تجاه الموتى، وورطة الأخلاق تجاه الأحياء. هي ورطة الانتماء الوطني تماما كما هي ورطة الثأر والانتقام، وهي فلسفة العدل والجزاء، وهي مفاهيم الغفران والتصالح. إنها إجابة عالقة بين الأفراد، فلكل إنسان قصته الخاصة، وبين الجماعات التي تعيش بضمير وصوت واحد، هذا السؤال الحي الذي لم يمت عبر التاريخ الإنساني منذ الجريمة الأولى في الأرض وحتى اللحظة الراهنة التي يسقط فيها الآن عشرات القتلى.

هذا السؤال الفلسفي الصعب لم يكن حكرا على المواطن العربي، لكنه سيعنيه اليوم بصفه خاصة أكثر من غيره، ذلك لأن ما تعيشه المنطقة العربية من مسلسل القتل المتواصل يجعل التفكير في الإجابة واجبا إنسانيا ووطنيا والتزاما ثقافيا كبيرا، فلم يعد مقبولا أن تتصدر قصيدة أمل دنقل «لا تصالح» وحيدة لهذا السؤال. التصالح هو شرط أساسي في كل وحدة وطنية، وأن يتفق الجميع عليه لا يعني أن الجميع يقبل بالطريق الواحد إليه، فثمة طرق تتطلب النسيان لأجل المصالحة وأخرى تتطلب الجزاء، وهنالك طرق لا تتنازل عن الثأر والانتقام، فأي الطرق يمكن أن يصل بالمواطن العربي إلى التصالح الذي يؤمن به ويعجز عنه؟

هل يمكن أن يوجد طريق للتصالح لا يتطلب النسيان ولا الثأر؟ هل يعني التسامح عدم الوفاء للضحية؟ وهل ينطبق الحداد على الموتى على فكرة الانتقام من القتلة؟ وقبل كل هذه الأسئلة، هل تسنى للمواطن العربي دائما تمييز القاتل من القتيل؟ كل هذا وأكثر يجب ألا يؤجل العمل على المصالحة ويعطلها بغية فرز يد الظالم من المظلوم، بل يجب أن يفتح المجال لسياسات الذاكرة، فالتسامح لا يعني النسيان، والحداد لا يعني الثأر، والعدل لا يعني الانتقام. أن نتصالح وطنيا لا يعني أننا سننسى قتلانا، وأن نتذكر موتانا لا يعني أننا سننتقم لهم بالموت. أن نحيي ذاكرة ضحايانا هو حق وواجب يحفظ من تكرار اقتراف الخطيئة، وأن نعيش حدادا لا يعني أن ننقطع عن اليوم والراهن، بل يعني الوفاء للحاضر وتذكر الماضي لا نسيانه. إنها حالة إنسانية تحفظ للشعور حقه في التعبير العميق والعلني بل وتخليده من خلال كل أشكال التعبير السياسي والفني والاجتماعي وغيره. المراد بالتصالح ليس هو إلغاء ذاكرة الحدث الفظيع الذي خلف الخسارة والألم واعتباره كأن لم يكن، ليس المراد إنكار العاطفة والحالة الوجدانية المكلومة، بل المطلوب التعبير عنها بما يحفظ للإنسان كرامته وأخلاقه، وعدم التورط في مسارات الثأر والانتقام، ذلك لأن الثأر ليس حالة انتقام للقتيل الذي لن يعود حيا، بل هو شكل من أشكال تعبير الحي عن ألمه. بالأدق هي حالة لإراحة الذات لا حالة وفاء للميت. الثأر هو انتقام للذات المتألمة لا لحق الميت في التذكر، ذلك لأن التذكر هو الحداد وعدم النسيان.

لا يستوي المعنى في أن ينشغل الحي بالثأر لألمه فينسى الضحية وينغمس في ذاته، والمعنى في أن يتوقف عن الثأر لأنه لا يريد أن ينشغل بألمه الذاتي عن الوفاء للضحية بالتذكر. التصالح هو أن نكف عن الثأر، وأن نكف عن الثأر لا يعني إطلاقا النسيان، بل التذكر والحداد الذي يخلد الضحية، وفي التاريخ الإنساني كانت ولا تزال طقوس الحداد أكثر وسيلة لتخليد الألم والضحية، ولم تنجح كل حروب ومعارك الثأر إلا في نسيان الضحية الأولى وإسقاط مزيد من الضحايا المنسيين. الثأر هو إلغاء للذاكرة ونسيان للميت إذن، والتصالح ليس شرطا وطنيا مجردا من الإنسانية، بل هو أولا إنقاذ للإنسان من نفسه، من الأنا الراغبة في الانتقام. التصالح ليس نسيانا أيضا، بل هو تجاوز الأنا لأجل الضحية، الضحية التي لن يحييها الانتقام، بينما ستخلدها الذاكرة، الذاكرة التي لا تعيش في الحرب بل في السلم. إنها سياسات الذاكرة كما يصطلحها جاك دريدا، وهي المقصد في المقولة الشهيرة لنيلسون مانديلا «نعم للصفح.. لا للنسيان».