الثالث عشر من «آبان» (عقرب) وصفقة القرن

TT

تتحدث الفلسفة في أغلبها عن جانبين للوجود: الجوهر والمظهر. ويميز الفلاسفة دائما بين هذين الجانبين، بيد أنه في بعض الأحيان تحدث فجوة كبيرة بين هذين الجانبين. خذ على سبيل المثال عندما نخطئ في اتخاذ بعض القرارات أو تقدير بعض الأشياء بالشكل الصحيح، نشعر بأن الأرض قد توقفت عن الدوران، وعندما نعود إلى المنزل كل يوم، لا نشعر بأن المنزل يتحرك رغم إلمامنا بالحقيقة العلمية أن الأرض تتحرك وتدور حول نفسها.

ما أريد أن أقوله هو أن هناك اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف في إيران فيما يتعلق بالعلاقات مع أميركا؛ فهناك اتجاه عدائي يظهر جليا في المظاهرات المناهضة لأميركا، حيث يهتف المتظاهرون «تسقط أميركا». أما الاتجاه الآخر فيختلف تماما في قبوله لأميركا، حيث يرى الشعب الإيراني أنه ينبغي على الحكومة أن تسعى لحل المشاكل بين إيران وأميركا، وكذلك إقامة علاقات طيبة بين شعبي البلدين.

وكان كان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد رمزا للاتجاه الأول المعادي لأميركا، فقد كان أحمدي نجاد يعتقد أنه الزعيم الأوحد في العالم الذي يخطب وده غالبية زعماء ورؤساء البلاد الأخرى ويسألونه النصيحة في كيفية إدارة شؤون بلادهم.

أما الرئيس الجديد حسن روحاني فيعد رمزا للاتجاه الثاني المتقبل لأميركا. ويعتقد روحاني أنه من الممكن حل المشاكل بين البلدين، مما يمهد لإقامة علاقات قائمة على الاحترام المتبادل.

وقد مثل حديث روحاني الهاتفي الأول مع الرئيس الأميركي باراك أوباما خطوة كبيرة على طريق تجديد العلاقات بين البلدين.

بدأت قصة الاتجاهين سالفي الذكر من المطار عندما عاد روحاني إلى طهران، فقد قذف أحدهم حذاءه باتجاه سيارة روحاني، وافترش آخر الطريق أمام السيارة، بينما هتف ثالث «يسقط الخائن.. يسقط مقدم التنازلات». أما الحشد الأكبر، فقد جرى تنظيمه في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، الموافق «الثالث عشر من آبان (عقرب)» في التقويم الإيراني، الذي يوافق الذكرى الرابعة والثلاثين لاقتحام السفارة الأميركية في طهران والاستيلاء عليها. وكان الطريق المقرر لتلك المسيرة الحاشدة هو شارع طالقاني والشوارع الأخرى القريبة من مبنى السفارة الأميركية وسط العاصمة طهران. وفي خارج العاصمة، فقد تقرر أن يبدأ المحتجون مسيرتهم من أمام مبنى الجامعة الحكومية وصولا إلى مبنى جامعة آزاد الخاصة في مدينتهم.

نظم وأدار تلك المظاهرة إحدى المؤسسات الحكومية. وقد دعي سعيد جليلي، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران ومسؤول ملف المفاوضات حول الملف النووي، لإلقاء خطاب من أمام مبنى السفارة الأميركية، الذي يخضع في الوقت الحالي لسيطرة الحرس الثوري الإيراني.

قبل الثالث عشر من آبان (عقرب) الحالي، شهد الإيرانيون الذين يقطنون العاصمة طهران موجة جديدة من الدعاية المعارضة للمفاوضات مع أميركا، حيث علقت اللافتات في الميادين وتقاطعات الطرق الرئيسية. إحدى تلك اللافتات، على سبيل المثال، والتي كانت تحمل عنوان «المفاوضات المباشرة مع أميركا»، صورت المفاوض الأميركي على هيئة شخص يلبس بزة نصفها السفلي عسكري والنصف العلوي مدني ويمسك بيده بندقية من الذهب، بينما يبدو المفاوض الإيراني، الذي جثا على ركبتيه، في مظهر الطرف الغبي الذي يتباهى بلحية صغيرة بيضاء، والذي يشبه إلى حد كبير وزير الخارجية الإيراني دكتور محمد جواد ظريف.

وتحمل تلك اللافتة بين طياتها إشارة واضحة إلى رفض بعض المؤسسات الإيرانية، بما فيها الحرس الثوري، للمباحثات المباشرة مع أميركا، لكن أسوأ ما في الأمر أنهم يضعون العراقيل والصعوبات في طريق حكومة روحاني. وقد جرى الإعلان عن أن شركة «أوج للترويج والبروباغندا»، التابعة للحرس الثوري الإيراني، هي التي قامت بعمل تلك اللافتات.

فضلا عن ذلك، تعرض وزير الخارجية وفريقه المعاون لانتقاد شديد واتهموا بخيانة الثورة والأمة. بيد أن الفصل الأسوأ في القصة هو أن إمام أحد المساجد، شن هجوما حادا أثناء خطبة صلاة الجمعة على المفاوضات مع أميركا.

وكما هو معتاد كل عام في الثالث عشر من آبان (عقرب)، فقد انتظر الجميع خروج المرشد الأعلى لإلقاء كلمته؛ ففي كل عام يلتقي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية بالطلبة ويتحدث معهم عن العلاقات الإيرانية - الأميركية. وقد شهد الزخم الذي سبق الثالث عشر من آبان (عقرب) هذا العام اتجاهين مختلفين، الأول يبدو ظاهرا على سطح الأحداث وهو بالطبع الاتجاه الذي يمثل أولئك الذين يقاومون الدخول في مفاوضات مع أميركا، ويمكن للمرء أن يرى تلك المقاومة في اللافتات التي جرى تعليقها في الميادين وتقاطعات الطرق الرئيسة، وما نشر في وسائل الإعلام، وأخيرا في الخطب التي ألقاها أئمة المساجد يوم الجمعة. وقد وصم أصحاب ذلك الاتجاه فريق المفاوضين بأنهم عملاء ومتنازلون. وعلى الجانب الآخر وقفت الغالبية من الإيرانيين الذين صوتوا لصالح روحاني على أمل أن ينجح في حل المشاكل الراهنة.

بيد أن السؤال الأهم الذي كان يدور في أذهان الكثيرين: مع أي فريق يقف المرشد الأعلى بخصوص هذه القضية؟

يمكنني القول، وهذا ما يشكل مفاجأة، إن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لحسن الحظ، وقف إلى جانب فريق المفاوضات. وقد وصف خامنئي هذا الفريق بأنهم أناس مميزون وأبناء للثورة الإيرانية، وأنهم سيبذلون قصارى جهدهم في تلك المهمة الصعبة. وأضاف خامنئي أنه ليس لأحد الحق في وصمهم بالمتنازلين.

والآن وبعد تصريحات خامنئي، بدأ الجميع في وصف فريق المفاوضات بأبناء الثورة! وهذا ما يعني أننا نرى هذه المرة إشارات إيجابية وبارقة أمل في نهاية النفق.

وقد بدأت إيران بالفعل في رؤية ثمار إيجابية ضخمة للمفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة وأوروبا.

وقد بدأت مجموعة «5+1»، التي تضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة لألمانيا، جولة جديدة من المفاوضات مع إيران يوم الخميس الموافق السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) في محاولة لوقف برنامج الجمهورية الإسلامية المشتبه به لإنتاج أسلحة نووية.

ومن ثمار هذه المفاوضات أنه سوف يجري تخفيف العقوبات المفروضة على إيران في مقابل التوصل لاتفاقية لتحجيم أنشطتها النووية لتخصيب اليورانيوم.

وأثناء لقائه بوفد من نواب الكونغرس الأميركي الذي كان يزور إسرائيل، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المفاوضات بـ«أنها صفقة القرن بالنسبة لإيران».

ويبدو أن خامنئي بدأ يتفهم إلى حد بعيد أهمية المفاوضات الحالية، وهو ما يمكن ملاحظته في الطريقة التي سيطر فيها للمرة الأولى على المتشددين في إيران. ولهذا فللثالث عشر من آبان (عقرب) هذا العام وجهان تماما مثل الفجل الأحمر، ظاهره أحمر وباطنه ناصع البياض.