ثمن العولمة؟!

TT

السينما عرفت كل شيء منذ وقت بعيد، وعندما خرج فيلم «عدو الدولة» فيما أذكر، فإن «ويلي سميث» المواطن البسيط كان عليه أن يواجه كل الإمكانيات التكنولوجية التي تجعله بالغ الضآلة أمام قوة مخيفة: الدولة.

الأقمار الصناعية تحدد موقعك في كل وقت، وتليفونك المحمول الجوال يمكن التقاط إشاراته واتصالاته طوال أربع وعشرين ساعة، وبطاقات ائتمانك تحدد ليس فقط أين تقيم، ولكن الذي تنفقه وعلى ماذا من السلع والبضائع، سواء كانت صفقة كبرى أو حزمة من الملابس الداخلية. وقت ظهور هذا الفيلم وغيره لم يكن قد عرف بعد أن الدولة تعرف عنك بصمة صوتك وعينيك وما لديك من DNA، بصمات الأصابع أصبحت «موضة» قديمة، والجديد تماما أن الجسد الإنساني له بصمة حرارية إذا ما عرفت بات ممكنا تتبعك، ومعرفة أين كنت موجودا حتى من قبل.

تكنولوجيا التعرف بات لديها ما يمكنها من معرفة الحالة الإنسانية، فما يفصح به الجسد الإنساني عن بعد كثير للغاية، فسيولة اللعاب، ونسبة الصوديوم، ونضوح العرق، واتساع حدقة العين، كلها تفشي أسرار الخوف والرعب وحالة الشجاعة التي تنتاب البشر في موقف أو آخر.

كان توماس هوبز قد وصف الدولة «بالتنين» (1651م) الذي يجب أن تتركز فيه السلطة المطلقة في يد واحدة تستطيع أن تدير علاقات البشر الذين هم بحكم الطبيعة أشرار. لم تكن الدولة في عهده تمتلك الكثير من وسائل القوة غير السيف والعسس والجواسيس، وأدوات مختلفة للقتل والتعذيب والإرهاب التي تكفي وزيادة لتحقيق انضباط البشر. لم يكن يعرف ما يخبئه القدر، والعلم، والمعرفة، ليس فقط للدولة وإنما للعالم كله.

تطورت التكنولوجيا خلال العقدين الماضيين في قفزات ربما كانت أكثر مما تحقق طوال التاريخ البشري، ولم يعد التأثير يخص «الدولة» ولكن العالم كله. منذ سنوات كنا نعرف أن الولايات المتحدة بسبيلها إلى إنشاء أكبر شبكة للأقمار الصناعية عرفتها الدنيا. الشبكة أمر يختلف تماما عن أن يكون لديك قمر صناعي، هذا بات من التكنولوجيات التي تعرفها دول متوسطة؛ أما «الشبكة» فهذه مسألة أخرى ليس فقط في مدى تقدمها ودقتها، وإنما في تغطيتها لكل أنواع البشر والدول والجماعات والبحار. المحطة الفضائية الدولية المأهولة التي تلف حول الأرض أداة إضافية اشتركت فيها 16 دولة، ولكن المسألة ليس أن تكون مشتركا وإنما ما هو نصيبك في هذا الاشتراك، والولايات المتحدة هي المشترك الأعظم.

من يظن أن الولايات المتحدة موجودة في أميركا الشمالية لا يعرف الكثير عن التغيرات في عالم الجغرافيا، لأنها امتدت إلى الفضاء الخارجي، وأصبح نطاق عملها وبصرها ممتدا لكي يشمل الكون كله؛ وحيث يوجد البصر والقدرة، يوجد النفوذ والتأثير.

ما سمعناه وقرأناه مؤخرا عن فضيحة «التجسس» الأميركية على حلفائها من خلال التنصت على التليفونات الخاصة بزعماء هذه الدول لا يعكس كل الحقيقة، إنه قمة جبل الثلج الظاهرة على السطح، والمعضلة أن حجم الغاطس منه لا يمكن حسابه لأن أدوات الحساب موجودة فقط لدى الولايات المتحدة، وبعض منها لدى روسيا.

ما عرفناه أن معضلة «هوبز» وعقده الاجتماعي بين الفرد الذي يقدم الولاء والطاعة، والسلطة التي تعطي الحماية، تغير الآن وأصبح الفرد في جانب، والسلطة على مستوى العالم كله، لا يعرف لها حدود، ولا لقدراتها تقدير.

أصبح الفكر السياسي كله أمام أكبر معضلة يواجهها في تاريخه، فما فعله روسو ولوك ومونتسكيو، ومن بعده كل مفكري الليبرالية والفكر الديمقراطي، وحتى الاشتراكي في بعض الأحيان، كان كيف يمكن الحد من قدرة السلطة على الطغيان. ما نشاهده الآن من انتخابات، وتداول السلطة، ومجالس تشريعية وانتخابات، وحريات فردية وعامة، ومؤسسات كبرى وصغرى، كان هدفها إعطاء الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية المسؤولة مقابل سلطة إذا كانت تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة، فإنها لا تحتكر الحقيقة، ولا الثروة، ولا حتى اتخاذ القرار.

كل ذلك كان لا بد له من إطار، والإطار كان الدولة التي لها حدود، ولها نظم وقوانين، وأدوات للرقابة، وتوازن السلطات؛ فكيف يكون الحال الآن إذا كانت السلطة قابعة في واشنطن، والفرد في مكان آخر من العالم؟ الفرد لم يعد خاضعا فقط لسلطة الدولة التي يعيش فيها، وسواء كانت هذه السلطة ديمقراطية منتخبة أم استبدادية يمكنه أن يثور عليها؛ فإنه بات خاضعا لسلطة أخرى بعيدة تتجسس عليه وترصد تحركاته، بل إنها يمكن أن تعرف حالته الصحية، ومن يعرف: النفسية والجنسية أيضا.

راقب هنا حركة الأفراد في المطارات، وكم المعلومات التي يتم تراكمها عن الفرد منذ لحظة دخوله إلى المطار وحتى يصل ويخرج من المطار التالي، وبالصوت والصورة وما هو أكثر، وكيف يتم تخزين هذه المعلومات واستدعاؤها بسرعة نقرة إصبع. المعضلة هنا أخلاقية بقدر ما هي سياسية واقتصادية، فلا أحد يعرف كيف ستستغل الولايات المتحدة القدرة التكنولوجية التي توصلت إليها. فلم تجد واشنطن معضلة في التنصت على حلفائها. فلمن لا يعرف فإن علاقات الحلفاء أيضا فيها استخدام للقوة حتى تبقى علاقات التحالف قائمة، ويحصل فيها الطرف الأقوى على العائد الأعظم من العلاقة. ولكن زمن العولمة لا يعرف فقط علاقات الدول، فالتجسس ممكن على الشركات، وفي زمن الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات والأنشطة، فإن أسرارها التكنولوجية الكبرى لا تقل في أهميتها عن الأسرار العسكرية للدول. وفي زمن تتنافس فيه الدول على السبق التكنولوجي، فإن تراكم الحصول على كل سبق قبل طرحه في الأسواق هو في النهاية ما يعطي دولة من القوة ما يتفوق على باقي الدول.

الأخطر أن التجسس سوف يجعل كثيرا من القرارات الاقتصادية معلوما، فقرار مثل بيع الأسهم أو شرائها، يمكنه أن ينقل ثروات كاملة، ويعطي دولا القدرة على الاستيلاء على شركات عظمى، وعندما تعمل البورصات العالمية على مدار الساعة، فإن المعلومات تعطي الكثير من المزايا الفائقة وبسرعة غير عادية، وبقدرة على اتخاذ القرار في نفس اللحظة المطلوب فيها.

«ثمن العولمة» أكبر مما نتصور، وما اكتشفناه من تجسس على قادة دول كان محض اختزال لحقائق أكبر، تحتاج من البشرية فكرا سياسيا جديدا. لقد استطاعت البشرية أن تتجنب مجتمع ودولة جورج أورويل في روايتيه «1984» و«مزرعة الحيوانات» من خلال الديمقراطية والفلسفة الليبرالية، ولكن كيف يمكن حدوث ذلك لأفراد وشعوب لم تشارك في انتخاب حكومة أميركية، ولا كانت لها أسهم في شركات «غوغل» و«أبل» و«مايكروسوفت» و«فيس بوك» و«تويتر»، ولا تستطيع أن تؤثر في قرارات تهم العالم كله؟ أظنها معضلة القرن الواحد والعشرين!