التشغيب السياسي بأدوات علمية!

TT

يبدو أن الامتعاض الأميركي من موقف السعودية الأخير، قد انتقل من التعليقات السياسية السريعة في الصحف والمدونات السياسية الذي اتخذ شكل الصدمة ثم التحليل ثم بداية القناعة بأن ثمة شرخا ما يجب أن لا يتسع، ومثل هذه التعليقات على حدة بعضها متفهم وطبيعي أن يكون حديث الصحافة التي تعكس عن أجنحة ورغبات وتيارات متباينة جدا، يمكن القول أيضا أنه يقابل في صحافتنا المحلية بمقالات لا تقل بعدا عن الجانب السياسي وإمعانا في إعطاء المسألة أبعادا أخرى تبدأ بشخص أوباما ولا تنتهي بنسج خيوط لمؤامرة ما.

لكن أن ينتقل «التشغيب السياسي» من أعمدة الصحف والتعليقات السريعة إلى أوراق بحثية تقدمها مراكز أبحاث مرموقة فهذا يعني أننا بإزاء تشكل حالة جديدة في التعاطي مع الأزمة، وهو ما تعكسه دراسة قدمها فريدريك ويري كبير الباحثين ببرنامج الشرق الأوسط في معهد كارنيغي للدراسات الذي كنت وما زلت أحترمه رغم اعتقادي أن دراساته المتصلة بالشأن الخليجي هي الأضعف لأسباب كثيرة ليس هذا مجال سردها.

الدراسة تتنبأ بأن السعودية تعيش أكثر أوقاتها قلقا والتباسا وآية ذلك كما يرى الباحث ليس تصريحات وزارة الخارجية أو مواقفها، وإنما ردود الأفعال الذي استقاها الباحث من أعمدة الرأي السعودية التي علقت على موقف السعودية الأخير وما تلاه من تقارب أميركي إيراني، ولن أطيل في توضيح فكرة الباحث التي يمكن العودة إلى دراستها كاملة في موقع كارنيغي، إلا أنه حدد ثلاث مدارس في فهم الحدث السعودي عبر أعمدة الرأي التي رصدها الباحث، مدرسة محافظة وأخرى معارضة وثالثة بينهما، كل عبّر بشكل مختلف عن ما سماه الباحث القلق المفرط من قبل المملكة تجاه الاضطرابات الإقليمية.

بالطبع المغالطات في الدراسة رغم حرصها على الرصد والتحقيب تبدأ في تصور طبيعة الصحافة السعودية واتصالها بالقرار السياسي، الذي يختلف تماما عن طبيعة الصحافة الأميركية حيث يمكن بسهولة تتبع رأي ليس فقط الحزب السياسي الذي تدعمه الجريدة وإنما حتى رأي الأشخاص المقربين جدا من صناع القرار أو البيت الرئاسي أو حتى اللوبيات التي تمارس ضغطها، بينما الصحافة السعودية فيما يخص السياسة الخارجية هناك استقلالية كاملة في الحديث عنها رغم أن هذه الاستقلالية ليست صحيّة إذا كان الكاتب لا يعبر عن رأيه الشخصي وإنما يحاول أن يعلل ويشرح ويبرر ويتخذ موقف «مع» أو «ضد» دون أن تكون لديه معلومات عن أبعاد الموقف أو التصريح من زاويته السياسية الخاصة وليس كاتجاه عام، لذلك فإن اعتبار المواقف المتباينة بل والمتناقضة من معلقين سياسيين أشار إليهم الباحث لا يعبر عن اتجاهات سياسية لها جذورها في داخل المطبخ السياسي الخارجي قدر أن الهامش الكبير الذي حظيت به الصحافة السعودية منذ سنوات لم يشمل فقط القضايا الدينية والاجتماعية بل تعداها للجانب السياسي على الأقل الخارجي وأكبر دليل على ذلك نقل الباحث لرأي أحد الكتاب الصحافيين الذين يظهرون كثيرا على القنوات الأجنبية بأن موقف السعودية ومخاوف السعوديين هي مجازات لغوية والتقارب الإيراني الأميركي مفيد للسعودية والمنطقة!!

بالطبع لا يتصور الباحث الأميركي المعزول عن سياق المشهد السعودي من الداخل أن ثمة تمثيلا للآيدلوجيات التي يتبناها أو يتعاطف معها السعوديون والتي قد لا تتطابق مع الرأي والاتجاه السائد لدى الموقف السياسي، وربما تجلى ذلك في الموقف من الربيع العربي ثم لاحقا من الإسلام السياسي والإخوان.

الثابت السعودي في الشأن الإقليمي لم يتغير، لأنه ليس فقط شأنا سياسيا بل قيمي؛ فالمملكة ضد التمدد الإيراني وتدخلها في دول الجوار، كما أنها ترى أن ملفات استقرار بلدان الخليج والبحرين على رأسها خط أحمر سيادي لا يمكن التفريط فيه، مثل احترام إرادة الشعب المصري وثورة الشعب السوري.. الخ بينما الموقف الأميركي في هذه الملفات براغماتي محض يبحث عن مصالحه على المدى القريب المنظور الذي تطمح له إدارة الرئيس أوباما وخطها السياسي الذي هو مؤقت وهذا أمر متفهم، لكنه يتجاهل العواقب التي تراها السعودية على المدى البعيد وهي مخاوف لا تعبر عن اتجاه سياسي مهدد بالرحيل كل أربع سنوات.

اختلال توازن القوى في الإقليم لم يكن وليد اليوم بل يعود إلى الحالة السياسية منذ الثورة الإيرانية وإسقاط نظام الشاه؛ لكن انضاف إليه تدخل سيادي بأدوات جديدة وانضاف إليه واقع مترد جدا في دول الربيع العربي وتغير في الهوية السياسية إضافة إلى انهيار البنى المؤسسية للدول وهشاشة اقتصادية مرعبة، وكلها نذر بأن الأمر كما تفهمه السعودية يتعدى مواقف سياسية متصلبة إلى قلق حقيقي تجاه انهيار المنطقة بالكامل.

تفسير وجهة نظر السعودية من خلال اتجاهات الرأي في الصحافة هو مثل اتهام السعودية بالطائفية أو عداء الغرب بناء على فتاوى دينية متشددة صدرت عن مشايخ تقليديين خارج العصر، والتصور الساذج عن مكونات المجتمع والقوى الفاعلة فيها وأنها تعبر عن توترات سياسية هو سبب هذه التوقعات عن الشأن الداخلي الذي منذ 11 سبتمبر، وهو يعكس على الأرض نتائج تختلف جذريا عن التحليلات الماقبلية والتصورات الافتراضية للداخل السعودي.

طبعا جزء من أزمة التصورات المغلوطة تتحمل دول المنطقة وخاصة الخليج أعباءه، فغياب مراكز الأبحاث المحلية والإحصاءات التفصيلية وضعف الأطروحات العلمية في مجال العلوم الإنسانية أو انشغالها بمواضيع غير حيّة ساهم في ترك الفراغ للتكهنات من كل مكان.

[email protected]