الروس يعودون

TT

صيحة قديمة تعود إلى نصف قرن مضى، وهي صيحة تمثل الذروة في الحرب بين الكتلتين، تجسد اعتقادا بأن الشعب الأميركي سيستيقظ ذات يوم فيجد الجيش السوفياتي ينزل على شواطئه. هذه المخاوف جسدها فيلم شهير يحمل نفس الاسم، غير أنه كان ينتمي إلى عالم الكوميديا الراقية.. تقترب غواصة روسية من شاطئ أميركي في مكان غير مأهول، وهو فعل خطر للغاية، ستدهش إذا عرفت أن القبطان ارتكب هذه الحماقة لأنه «عاوز يشوف أميركا». لم تتنبه القوات الأميركية إلى اقتراب الغواصة لسبب لا نعرفه، وحدثت الكارثة عندما «وحلت» الغواصة في طين الشاطئ وفشل الكابتن في سحبها إلى المحيط، فاضطر هو ورجاله إلى النزول إلى الشاطئ للبحث عن لنش قوي قادر على شدها وسحبها إلى المحيط، ويفاجأ أهل القرى بالروس بينهم، وتبدأ علاقات إنسانية بينهم، لم يشعر أحد بالخوف من الآخر، وينتهي الفيلم بالغواصة (يقطرها) لنش قوي ويخرج بها إلى المحيط، في نفس اللحظات يتنبه سلاح الطيران الأميركي إلى وجود الغواصة فتندفع الطائرات لضربها، غير أن لنشات أهل القرى كانت تحيط بها لحمايتها إلى أن غاصت تحت مياه المحيط.

مهد هذا الفيلم لمرحلة الوفاق بين الكتلتين. كان الإبداع الفني أكثر صدقا من كل مخاوف رجال السياسة. لا أعتقد أن الشعب الأميركي كان يشعر بالرعب من الروس بعد هذا الفيلم التاريخي.

لقد خرج الروس من مصر في عام 1972 بناء على طلب الرئيس السادات. كان يمهد لحرب أكتوبر 1973 وكان يخشى أن يكون وجود خبراء سوفيات بين صفوف قواته المسلحة، سببا في تعقيدات بين الكتلتين، ربما تكون سببا في حرب ثالثة.. والآن، يعود الروس إلى مصر، ليس في إطار الكتلتين والحرب الباردة، ولكن في إطار علاقات المصالح المشتركة وتبادل المنافع. ليس خافيا على أحد أننا عاجزون عن دفع ثمن ما سنأخذه منهم من سلاح، لذلك ستتم الصفقات عن طريق القروض، وسترحب روسيا بذلك لأنها حصلت على الجائزة الكبرى؛ وهي عودتها إلى المنطقة، ليس استنادا للسياسة، بل استنادا للاقتصاد وعلاقات التجارة الطبيعية بين البشر.

لتمض العلاقات المصرية - الروسية في طريقها، غير أن لي ملاحظة: بعد تجميد مبلغ من أموال المعونة لحساب المصانع المنتجة (الخبير الأمني سيف اليزل)، لم يحدث أن اندفعنا لشرح موقفنا للحكومة الأميركية وللشعب الأميركي. حتى الآن، رغم بلاغة السيد جون كيري، أنا لا أعرف لماذا تم تجميد هذا المبلغ ولماذا أوقف تسليم الطائرات بينما هي جاهزة للتسليم؟! نعم، لم يتسرب لي الإحساس بأن مصر بذلت مجهودا ما من أجل إلغاء هذا التجميد، وكأننا كنا في حاجة إلى هذه اللحظة لنلجأ للروس.

ومع كل ذلك، اسمحوا لي بأن أصارحكم بما أتألم من أجله هذه الأيام؛ في عدد من القرى المصرية تختلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ويصاب الناس بالتسمم، ترى هل نطلب من الروس مساعدتنا في أمور من هذا النوع؟ تكلموا عن السلاح.. ولكن، اسمحوا لي بأن أتكلم عن الحياة.