تكلفة إسقاط الموجة الرابعة من الانتقال الديمقراطي

TT

ثمة مؤشرات عدة بدأت تبرز أن أبطال الموجة الرابعة من الانتقال الديمقراطي في العالم العربي سيكون لها تداعيات استراتيجية كبيرة يمكن أن تؤثر على مستقبل الكثير من الدول العربية وعلى أدوارها الإقليمية. فقد برزت على الأقل أربعة مؤشرات متتالية في الزمن تدل على أن الإدارة الأميركية بصدد تغيير استراتيجيتها بشكل كلي في المنطقة وأن الرهان على ما كان يسمى محور الاعتدال لإحداث التوازنات الأمنية والعسكرية والسياسية في المنطقة قد بدأ يضعف لحساب تسوية مباشرة مع الطرف القوي في المعادلة والذي تمثله إيران ومحورها الممتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية في لبنان وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية، مرورا بسوريا والعراق.

المؤشر الأول، يتمثل في تغير السياسة الأميركية تجاه سوريا، بعد دخولها حلبة التفاوض السياسي مع روسيا، إذ تأكد أن مخاوف الإدارة الأميركية من بروز طيف من الإسلاميين الراديكاليين في صورة المستقبل البديل لنظام بشار الأسد كان السبب وراء توقيف مسار الدعم العسكري المقدم للجيش الحر من أجل إسقاط نظام الأسد، لا سيما بعد دخول حزب الله على خط المواجهات، واقتناع الإدارة الأميركية بأن كل الخيارات المطروحة بعد الأسد ستكون مضرة لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وأن الأولى الموازنة بين الأضرار واختيار أخفها لعله يمكن من فتح نافذة للتفاوض السياسي حول المنافع الاستراتيجية في المنطقة وفي مقدمتها قضية الأمن الإسرائيلي. ومما زاد هذا المؤشر وضوحا الموقف الأميركي البارد تجاه ملف الإبادة الكيماوية بالغوطة، وطريقة تعاطي مجلس الأمن معه بضغط من القوى العظمى.

المؤشر الثاني، يتمثل في المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيس الأميركي أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني وما يرمز له ذلك من وجود صفقة تبتدئ بمعالجة مشكلة البرنامج النووي وفك الحصار الاقتصادي والتجاري عن إيران، وتمتد لتسوية استراتيجية تشمل كل الملفات في المنطقة، وفي مقدمتها الملف السوري، وملف المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بملفات التوتر الأمني والعسكري مع إسرائيل.

المؤشر الثالث، يرتبط بموقفين غير مسبوقين صدرا من الجانب السعودي، ويتعلق الأمر برفض وزير الخارجية السعودي إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة ورفض بلاده قبول عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، وتعليل ذلك بفشل مجلس الأمن في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وفشله في تحويل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، وفشله في إيقاف إبادة النظام السوري لشعبه.

المؤشر الرابع، يتمثل في صفقة تبادل الرهائن بين حزب الله وتركيا وسوريا، إذ جرى الإفراج عن تسع رهائن لبنانيين وعن طياريْن تركيين، وعن أكثر من مائة امرأة معتقلة في السجون السورية.

والواقع، أن اجتماع هذه المؤشرات الأربعة، التي سبقها تصريح دال لوزير الخارجية التركي غداة الإطاحة بمحمد مرسي الرئيس المصري المنتخب بكون تركيا ستعيد النظر كلية في سياستها الخارجية في المنطقة، كل ذلك لا يدع مجالا للشك، بأن الإدارة الأميركية بعد إضعاف الدور المركزي لمصر، سلكت الخيار الآخر، وهو التوجه إلى التفاوض المباشر مع إيران، وعقد صفقة سرية معها تشمل كل الملفات بما في ذلك المسارات المعلقة التي لم يستطع محور الاعتدال أن ينجح في إيجاد تسوية لها بسبب إمساك إيران بمعظم خيوطها.

ولعل ما يؤكد ذلك، الجهد الكبير الذي تقوم به تركيا وقطر (المستفيدتان الأساسيتان من الموجة الرابعة من الانتقال الديمقراطي في العالم العربي) من أجل تكييف عناصر دبلوماسيتها مع التحولات الجديدة، واستثمار التناقضات الإقليمية التي تساعدهما على إعادة صياغة دورهما المرتقب في المنطقة.

والحقيقة، أن هذا السيناريو لم يكن ألبتة مستبعدا، بحكم أن قوانين السياسة ومعادلتها تحتم أن يكون التفاوض مع الجهة المؤثرة في مسارات التسوية والممسكة بالخيوط الأساسية فيها، وليس مع الجهة التي لم تعد قادرة حتى على ضبط إيقاعاتها الداخلية.

لقد كان من الممكن أن يتقوى المحور المصري - السعودي بالقوة الإقليمية التي تشكلها تركيا والقوة الناعمة التي تضغط بها قطر، وكان من الممكن الرهان على زخم الإسلاميين في المنطقة العربية لإحداث توازن قوي في المنطقة يجبر إيران على الانخراط في توازن الأمن في المنطقة، ويقلل من توسعها الإقليمي، لكن، يبدو أن المصالح الأميركية رجحت في نهاية المطاف التعامل مع القوة الإيرانية بدلا من قبول حكم الإسلاميين في المنطقة العربية، وهو ما سيكون له تأثير على موازين القوى في المنطقة، هذا إن لم يكن جزءا من استراتيجية قادمة تدخل في أحد اعتباراتها سياسات موجهة إلى بعض دول الخليج نفسها.

الفرضية التحليلية التي ستظل موضع الاختبار في السنوات القليلة المقبلة، هي أن تكلفة إسقاط موجة الانتقال الديمقراطي بالعالم العربي، وما تلاها من استراتيجية استبدال خريف الإسلاميين بربيعهم، ستكون مكلفة جدا في المنطقة، وسيكون لها أثر سلبي على الدول المركزية في محور الاعتدال، لأنها إذ أسهمت بنحو من الأنحاء في إضعاف القوة التي كان من الممكن الارتكاز عليها لتحصين التوازن الأمني الإقليمي، ومنع أي استراتيجيات قادمة لإضعافها، أضعفت مركز الثقل في محور الاعتدال، وجعلت التفاوض يجري على أرض المحور الإيراني، ودفعت بعض الدول ذات الأدوار الإقليمية مثل تركيا إلى أن تبحث لها عن موقع جديد ضمن المتغيرات الحاصلة بدلا من أن تكون عامل تقوية استراتيجية لمحور الاعتدال.

هل يعني أن دول محور الاعتدال لم تعد تملك خيارات أخرى لإعادة صياغة دورها ومواجهة التحديات الأمنية والمذهبية والطائفية والإثنية التي ستفرضها إعادة صياغة المنطقة وأدوار محاورها؟

بالتأكيد، الخيارات مفتوحة، والتعبيرات التي صدرت أخيرا عن المملكة العربية السعودية وحجم الترحيب الذي حظيت به من بعض دول محور الاعتدال كالمغرب، تشير إلى وجود إمكانية لإعادة صياغة الموقف، لكن ذلك لا يمكن أن يتحقق في ظل دور ضعيف لمصر، ويزداد ضعفا كلما قوي حجم الاحتقان السياسي الداخلي بين مكونات الجبهة السياسية الداخلية.

خلاصة تقدير الموقف أن الخيارات المفتوحة المتبقية تمر بالضرورة عبر البوابة المصرية، وهي بدورها لا يمكن أن تفتح إلا بدور خليجي جديد في المصالحة المصرية وإزالة الاحتقان بين مكونات الصف السياسي والدفع نحو استرجاع الاستقرار السياسي بإدماج كل المكونات السياسية في خارطة طريق جديدة تشارك في صياغتها كل الأطراف السياسية.

* كاتب مغربي