خارج الإطار

TT

أحب الاشتباك مع الحياة. ويحلو لي الإنصات لما يقوله الآخر كوسيلة لإعادة ترتيب أفكاري وأولوياتي وقناعاتي.

ولو قيل لي إنني من الناس الذين يفضلون الخروج من داخل الإطار إلى خارجه، لترددت في قبول هذا التوصيف، لأنني أحيانا أوصف بأنني لست داخل الإطار فحسب، بل إنني جزء من الإطار نفسه. وهذا يجانب الحقيقة، لأن ظروف الحياة دفعتني إلى خارج الإطار بقوة، بحيث ارتطم رأسي مرارا بجدرانه، إلى أن وظفت أدواتي الدفاعية لحماية رأسي المتواضع من الصدمات المتتالية.

ولعل أول لقاء مع جدران الإطار حدث في بداية اغترابي. فقد كانت شوارع لندن ومحطات مترو الأنفاق تزخر بوجود فنانين ومغنين يؤدون ما تجود به القريحة، وأمام كل منهم غطاء آلته الموسيقية مفتوحا لكي يودع فيها المارة قطعا نقدية أو ورقية تعبر عن تقدير المتبرع لفن المؤدي.

كنت أعبر عن سخطي من وجود هذا النوع من التسول في دولة متقدمة. وكانت زميلاتي يُدهشن من سخطي، بناء على أن المتبرع يتبرع طواعية، وأن المؤدي يبدد ظلام محطة المترو بأغنية قد تبدل مزاج عابر المحطة من حال إلى حال, ويملأ البهجة في الميادين التجارية، بحيث يطغى جو من الألفة على المكان. ولم أكن أقبل ذلك التفسير. ولم يخطر لي على بال أن «البسكر»، كما يسمونه في الغرب، هو شقيق عازف البيانولا في شوارع القاهرة، أو القرداتي، أو صاحب صندوق الدنيا, ربما لأن هؤلاء ارتبطوا في ذاكرتي بالطفولة.

ولا شك أنني لم أفكر قط بأن عازف البيانولا يتسول لكسب المال. ولم أفطن إلا مؤخرا إلى رغبة المؤدي العلني في التعبير عن ذاته لأكبر عدد ممكن من الناس في مكان عام، ولم أفطن إلى أنه يؤدي خدمة إنسانية في الوقت ذاته.

بالأمس التقيت بالفنان السعودي الشاب عبد الرحمن محمد، ومن خلال اللقاء أدركت أنه صور فيلما قصيرا عن موسيقى الشوارع في الغرب. ولم تمض دقائق من حواري معه إلا وأدركت أنه قد يكون أحد هؤلاء الذين تدفعهم الموهبة إلى الخروج من الإطار أحيانا. جذبته موسيقى الشوارع، لأن فنانيها يعيشون خارج الإطار ويملأون الدنيا بهجة، ولا يهمهم كم من المال يجد طريقه إلى جيوبهم، بقدر ما يهتمون بجذب جمهور عريض يقدر هذا النوع من الفن الذي عرفته كل المجتمعات الإنسانية منذ القدم.

وتوالت الاكتشافات عن عبد الرحمن محمد داخل إطار الحوار. فهو صاحب صوت متميز جدا عامر بالشجن والإحساس والرغبة في تجديد الألحان الكلاسيكية بلغة موسيقية لا تستثني الجديد. وبدلا من رشق جدران الإطار بالحجارة، وحمل آلة البيانو إلى أقرب ميدان، قفز عبر الأسوار إلى الفضاء الإلكتروني لينشر ألحانه وأغانيه على «يوتيوب»، حيث امتزج البحث عن الذات الفنية بلغة التواصل المعاصرة.

هذا الصباح، قررت أن أعترف بأنني بعد اغتراب طويل أصبحت أقدّر موسيقى الشوارع، ودوافع من يمارسونها، وهنا تقاطعت تجربتي الحياتية مع تجربة عبد الرحمن محمد، على الرغم من فارق العمر والظروف الاجتماعية والثقافية التي شكلت كلا منا. تقاطعت تجاربنا ومع ذلك لم توصلني رغبتي في الخروج من الإطار إلى الغناء في الشوارع، بل إلى هذه المساحة الحرة التي تقوم فيها الكلمة المكتوبة بما يقوم به «يوتيوب» لمحمد عبد الرحمن. المهم هو أن يصل الصوت إلى من ينصت ويستقبل ويقدر.

ولا يمكن أن أنسى أن أحيي هذا الجيل من الشباب السعودي، الذي ارتقى إنسانيا وفكريا بفضل التعليم والسفر، واختيار ما هو أفضل داخل الإطار أو خارجه.