الجبيل.. الفصل الثاني!

TT

أكتب هذه الكلمات لهذا المقال وأنا أتذكر الوزير الاستثنائي هشام ناظر الذي عرف بأنه مهندس التخطيط السعودي الحديث، فهو صاحب الرؤية لفكرة هيئة الجبيل وينبع للاستثمار، التي كانت النواة الصريحة للحراك الصناعي الكبير الذي عرفته البلاد ومن وجود مدينتين صناعيتين، واحدة على الخليج العربي والثانية على البحر الأحمر، تكون الانطلاقة لصالح خدمة مد جغرافي وتنوع اقتصادي واسع ومطلوب.

نالت هذه الفكرة سخرية وسائل إعلام الغرب، وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بأنها أكبر «وهم» في التاريخ، وذلك في سنة 1980، وبعدها بسنتين قفزت مجلة «التايم» الأميركية إلى سور السخرية أيضا لتقول إن مدينة الجبيل صغيرة وقد يتحول مصيرها إلى مدينة أشباح باهظة التكلفة وتختفي تحت كثبان الرمال بحلول سنة 2000 وسيحتار باحث الآثار في المستقبل بهذه الأطلال الغريبة التي كانت لمشاريع ما. أصحاب نبوءات الشؤم هؤلاء سيصابون بالدهشة والإحباط إذا ما رأوا الجبيل اليوم وهي عبارة عن ورشة عمل ضخمة وهائلة.

وها هي الجبيل تعود للواجهة من جديد وتتصدر أخبار الاستثمارات الصناعية هي ومناطق أخرى في المنطقة الشرقية من السعودية. الجبيل اليوم بحسب وصف الكثيرين من المتابعين والمحللين تعد أحد أهم مشاريع الهندسة المدنية وأكبرها في العالم كله، حاليا توجد 290 صناعة مختلفة تمثل استثمارات أجنبية عملاقة بقيمة تفوق 110 مليارات دولار، هذه الصناعات الهائلة والباهرة تقدم أكثر من 10% من عوائد المملكة المالية الاقتصادية غير النفطية، وهي أيضا تقدم ما يزيد نسبته عن 85% من صادرات السعودية غير النفطية للخارج. واليوم يقام في الجبيل ورأس الخير (وهي مشروع مدينة صناعية اقتصادية جديدة كبرى) ما يزيد عن 79 مشروعا تعاقديا قائما بقيمة تزيد عن 3.46 مليار دولار.

المرحلة الثانية من تجهيزات البنية التحتية العملاقة للجبيل، وذلك لتجهيز المدينة لكل متطلبات القطاع الصناعي الهامة، 3.8 بليون دولار أميركي. وكلمة المشاريع العملاقة تطلق في مدينة الجبيل بلا مبالغة ولا تنميق للكلمات، فهناك مشروع ساتورب الذي تبلغ قيمته 14 مليار دولار، وهو شراكة بين شركة «أرامكو» للنفط وشركة «توتال» الفرنسية الكبرى، والذي سينشئ إحدى أهم المصافي في العالم الحديث.

وهناك أيضا مشروع صدارة تفوق قيمته 20 مليار دولار، وهو عبارة عن مجمع بتروكيماوي ضخم، وهو شراكة بين شركة «أرامكو» أيضا ومعها شركة «داو» للكيماويات الأميركية. وحاليا تقوم شركة «بكتل» الهندسية العملاقة الأميركية بتحضير الموقع، وبعد الانتهاء من المشروع في عام 2015 سيكون هذا أكبر مشروع كيماوي في موقع واحد في التاريخ. وليس ببعيد عن كل هذا الصخب ستقيم شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية العملاقة مشروعها الكبير لتصنيع النفط والغاز، وهو باستثمار يفوق المليار دولار.

هذه مجرد نوعيات عن «حجم» المشاريع الكبرى و«نوعية الشركاء».. وكل هذا الزخم ترجمته الأهم هي الوظائف الممكن توفيرها. وهناك دراسات وتقديرات جادة ومحترمة تقدر أن هذه المشاريع ستوفر ما يقرب من 55 ألف وظيفة في القطاعات المختلفة هناك، والاستعداد لاستقبال هذه الأعداد واضح، فاليوم يقطن ويعيش في الجبيل أكثر من مائة ألف، إضافة إلى 40 ألفا آخرين يعملون بها ولكن لا يسكنون فيها، وتقدر الجيبل أن تعداد سكانها سيكون أكثر من 300 ألف بحلول عام 2030، والعجيب أن كل ما يحدث في الجبيل اليوم له علاقة بالخطة الأساسية الـ«Master Plan» التي جرى وضعها في عام 1975 وقدمت البعد التنظيري والعملي للتطور المفترض والمتوقع، وهو ما قد حدث بشكل دقيق.

الجيبل اليوم تحديدا والمنطقة الشرقية عموما تحولت إلى «مطبخ» الصناعة السعودية العملاقة، وهي انعكاس للقرار الاستراتيجي الطويل الأجل الذي اتخذته السعودية بالاعتماد على التنوع الاقتصادي كذراع مكملة للطاقة والغاز عندها لأن لديها قيمة مضافة في توفير الطاقة والقدرة على توفير الأيدي العاملة كما حصل مع «سابك» و«أرامكو» من قبل وبنجاح مهم، وهي بذلك تقدم «إغراء» لكبرى الشركات الدولية للنظر إلى السعودية كسوق لتأسيس الصناعات فيها بدلا من النظر إليها كسوق استهلاكية فقط.

قصة الجبيل تدخل فصلا ثانيا مثيرا ومهما ولافتا، وهذه مسألة تستحق التوقف أمامها.. وتحية لرجل كان له الفكر والمقدرة على «صناعة» التخطيط السعودي الحديث بمعناه العلمي والعملي، فشكرا له.