عقلاء فرنسا والأمراض الحضارية

TT

تعجبني مجلة «عالم الأديان» التي تصدر شهريا عن مؤسسة جريدة «اللوموند» الفرنسية الشهيرة. ويعجبني أكثر رئيس تحريرها المفكر اللامع فريدريك لونوار. فهو يمثل خلاصة التنوير الفرنسي والأوروبي في آن معا. وهو منفتح كل الانفتاح على عالم الإسلام وبقية الأديان. صحيح أنه لا يجاملنا ولا ينافقنا، وإنما يتحدث إلينا بكل صراحة على طريقة: صديقك من صدَقك لا من صدَّقك. ولكنه يتحدث بلهجة المحبة والمودة ودون أي خلفيات طائفية أو عنصرية استعلائية. وهذا ما يفرقه عن بقية الغوغائيين في الساحة الفرنسية والغربية عموما.

كان هذا الباحث الشاب قد نشر عدة كتب متلاحقة لفتت إليه الأنظار. وكان آخر كتاب نشره بعنوان «علاج العالم أو شفاء العالم». نعم، العالم مريض وبحاجة إلى علاج. العالم كله مريض وليس فقط العالم العربي الإسلامي! لن أدخل في تفاصيله هنا، وإنما سأقول فقط إنه شخص فيه الأمراض الحضارية المعاصرة. قد تقولون: وهل هناك أمراض حضارية وأمراض غير حضارية؟ ما هذا الهراء؟ أما أنه يوجد مرض أو لا مرض، نقطة على السطر. ورجاء، أرحنا من فذلكاتك المملة ونزعاتك السفسطائية! هل تقصد أن العرب والمسلمين عموما مصابون بأمراض لا حضارية، وأن فرنسا والغرب عموما مصابان بأمراض حضارية؟ وأجيب: نعم، هذا ما أقصده بالضبط. الأمراض الحضارية ناتجة عن تخمة الحداثة وشططها وانحرافاتها، والأمراض اللاحضارية ناتجة عن تخمة القدامة التراثية وانحرافاتها وتطرفاتها أيضا. النوع الأول من المرض أصاب الحضارة الغربية بعد أن بلغت ذروة التقدم العلمي والتكنولوجي والطبي والعمراني... إلخ، والنوع الثاني هو الذي يصيبنا نحن أهل الجنوب المتخلفين أو السائرين نحو التنمية لكي نستخدم مصطلحا ملطفا أو أكثر لطفا. على هذا النحو، يمكن تشخيص أمراض العرب والغرب على حد سواء. في الواقع، كنا نعتقد أن الحضارة تشفي من كل الأمراض، فإذا بها تفرز أمراضا جديدة غير متوقعة! لا ريب في أن الحداثة شفت المجتمعات المتقدمة من أمراض كثيرة كالفقر والجوع والنزاعات الطائفية وحققت الحياة الرغيدة والتطبيب المجاني لمعظم السكان. ولكنها أفرزت أمراضا جديدة، ليس أقلها عبادة المال والعجل الذهبي، والإغراق في الشهوات والملذات إلى درجة التطبيل والتزمير للشذوذ باعتباره ذروة التقدم والحضارة والرقي! لكن، لنتوقف هنا عند نقطة أساسية ولنتفحصها عن كثب. وهي نقطة خلافية بيننا وبينهم منذ أن كانت موضة التهجم على الإسلام ونبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد شاعت وانتشرت في الغرب، سواء عن طريق الصور الكاريكاتيرية البشعة أو الأفلام السينمائية القذرة أو محاولات حرق القرآن الكريم بآلاف النسخ على يد قس أميركي متعصب... هل يؤيد فريدريك لونوار ذلك؟ أبدا لا. على العكس، فإنه يدينه بشدة على عكس وسائل الإعلام الرخيصة والكثير من المثقفين والصحافيين الأرخص. ما حدود حرية التفكير والتعبير؟ هل لها حدود أم لا؟ لكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي أن نستعرض فلسفة العقل الغربي.

يرى فريدريك لونوار أن التعصب الطائفي الأعمى كان قد جرى تحليله وشرحه بشكل رائع من قبل فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، حيث فككوه وأدانوه وأسقطوا مشروعيته الدينية. لقد ناضلوا من أجل حرية الضمير والمعتقد في مجتمعات كانت الأصولية المسيحية لا تزال مهيمنة عليها. وبالتالي، جازفوا بأنفسهم وتحملوا مسؤوليتهم. وبسببهم، يستطيع الإنسان الغربي اليوم أن يتدين أو لا يتدين، أن يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد أو لا يذهب على الإطلاق، ومع ذلك، يبقى مواطنا كامل الحقوق المدنية. وهذا الشيء كان مستحيلا في عصر فولتير وروسو وديدرو وكانط... إلخ. وهذا يعني أنهم لم يستمتعوا بثمار نضالاتهم، وإنما استمتعت الأجيال التي جاءت بعدهم. ولكن هذا الأمر الذي يحظى به مثقفو الغرب حاليا لا يحظى به مثقفو العالم العربي حيث تسيطر الأصوليات المزمجرة وترعب الجميع. بمعنى آخر، فإن المثقفين العرب يعيشون حاليا ما كان يعيشه مثقفو الغرب قبل مائتي سنة. لهذا السبب ينبغي أن تنتشر الأنوار وتمتد ولا تبقى محصورة بأوروبا الغربية وأميركا الشمالية؛ أي بالمجتمعات المتقدمة عموما.

هذا ما نفهمه من كلام المفكر الفرنسي الشاب فريدريك لونوار. ولكن، ماذا عن حرية التعبير الغربية: هل تشمل أيضا شتم الأنبياء والأديان كما يفعل متطرفو الغرب المسعورون؟ على هذا السؤال يجيب الباحث بـ(لا) قاطعة. فحرية التفكير التي انتزعها فلاسفة الأنوار بالقوة من براثن الأصولية المسيحية لا تبرر إطلاقا مهاجمة الآخرين في رموزهم الكبرى وأعز ما يعتقدونه. هل يحق لي أن أشتم بوذا مثلا وأجرح مشاعر مئات الملايين من البوذيين في الصميم؟ ما فائدة ذلك؟ بأي حق أفعل ذلك؟ ولكن، يحق لي أن أقدم دراسة تاريخية نقدية عن شخصية بوذا وعقيدته. هناك فرق بين النقد المسؤول والتجريح الشخصي المجاني. وبالتالي، فلو خرج فلاسفة الأنوار حاليا لمنعوا كل الصور الكاريكاتيرية وكل الأفلام التافهة وكل أعمال حرق القرآن الكريم على يد متطرفي الغرب ولأحلوا محلها الدراسة الفلسفية العميقة للتراث العربي الإسلامي. وهذا ما يفعله كبار العلماء والمستشرقون الأكاديميون. يضاف إلى ذلك أن هذه الأعمال الاستفزازية القبيحة تؤدي إلى عكس النتيجة: بمعنى أنها تزيد من قوة المتطرفين في العالم الإسلامي وتحرج التنويريين العرب إلى أقصى الحدود. كما تؤدي إلى تفاقم الهيجانات، بل وإلى سقوط قتلى وجرحى من الأقليات المسيحية في البلدان الإسلامية. وهذا يعني أن التطرف حليف موضوعي للتطرف. نعم أن متطرفيهم يؤججون متطرفينا! ولكن، إذا كنا نحن معذورين بسبب التأخر التاريخي والجهل والفقر المدقع، فما عذرهم هم؟!