المذاهب الأربعة.. بين كبارها المجتهدين وصغارها المقلدين

TT

تَغَيَّظ بعض الممتلئين تعصبا من مقلدي المذاهب: تغيظ بعضهم فوضع حديثا كذبا، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ زعم أن النبي قال: «سيظهر في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس هو أشد على أمتي من إبليس»!!

ومحمد بن إدريس هو الإمام الشافعي - رحمه الله - ويريد الوضاع الكاذب - بهذا الحديث المكذوب - أن ينتقص من قدر الإمام الشافعي بهدف الانتصار لمذهب وإمامه.

وهكذا يؤدي التعصب الأعمى إلى الفجور البواح، وهو فجور لم ينحصر في ذم الإمام الشافعي فحسب، بل هو فجور يورط صاحبه في ما يقود إلى المصير التعس البائس في الدار الآخرة. فقد صح عن النبي أنه قال: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

ولنغادر هذه السفوح والمستنقعات المملوءة بجراثيم التعصب والفجور في الخصومة - من ثم - لنغادرها متجهين إلى «القمة».. إلى الأئمة الكبار.. وكيف كانت سماحتهم.. وكيف كانت علاقة بعضهم ببعض.

ولنبدأ بالإمام أحمد بن حنبل.. قال هذا الإمام الكبير عن شيخه الإمام الشافعي «روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها)، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة».

لماذا اختيار الإمام أحمد بن حنبل؟

المقتضيات هي: أنه قد شاع بين شرائح من المسلمين أن المذهب الحنبلي ضيق الأفق، وأنه يحث على الجمود!! وأنه ينزع إلى التكفير (!!!) وأنه يضيق على الناس في فقه المعاملات!!

وهذا إجمال يتطلب بسطا وتفصيلا:

أولا: فرية أن المذهب الحنبلي ضيق الأفق نزاع إلى الجمود.

ويرجح أن هذه فرية ألصقها بالمذهب خصومه من مقلدي المذاهب، وإلا فإن حقيقة المذهب ومنهجه على النقيض من ذلك.. لنستمع إلى العلامة الشيخ محمد أبو زهرة وهو يقول في كتابه «ابن حنبل: آراؤه وفقهه».. يقول: «أما المذهب الحنبلي - ويقاربه المذهب المالكي - فلم تكن الفتاوى فيه إلا من الوقائع.. ولقد وجدنا أحمد - رضي الله عنه - لم يكتب فقها، وجاء أصحابه فرووا ذلك الفقه. وقد كان له في حياته قاصدون من كل بقاع البلاد الإسلامية. فمن بلاد ما وراء النهر، ومن فارس وخراسان، ومصر والشام واليمن والحجاز وغير ذلك. وكل أولئك استفتوه وأخذوا عنه ونقلوا فتاواه إلى بلادهم، وتفرقوا بها في البلدان، وهو رضي الله عنه يفتي في كل ما يسأل عنه، ويظهر أنه لم يكن يقيد نفسه بفتواه السابقة لأنها غير مسطورة بين يديه يراجعها، وينقحها أو يخالفها.. وأيضا فإن أحمد رضي الله عنه كان يتجه إلى الدليل حيثما كان لا يمنعه من ذلك رأي سابق، ولو كان ذلك الرأي صادرا عنه هو، ولعل ذلك هو الذي حفزه لأن ينهى عن كتابة فتاواه أو مسائله.. لهذا كله أُثرت عن أحمد أقوال مختلفة في المسألة الواحدة، وروايات مختلفة في الحكم.. وإذا كثرت الأقوال والروايات اتسعت أبواب التخريج. ولو كان قولا واحدا، ورواية واحدة، لكان في ضيق. وعلى حين تواطأت مذاهب أخرى على قفل باب الاجتهاد، فإن الحنابلة - اتباعا لمنهج إمامهم ابن حنبل - قرروا أن باب الاجتهاد بكل طرائقه لا يغلق، وإن كانت المدارك متباينة فليس لأحد أن يغلق باب الاجتهاد.. وإبقاء باب الاجتهاد مفتوحا في المذهب الحنبلي قضية تضافرت عليها أقوال المتقدمين والمتأخرين منهم حتى لقد قال ابن عقيل من متقدمي الفقهاء في ذلك المذهب الجليل إنه لا يعرف خلافا بين المتقدمين في اطراد الاجتهاد.. وإذا كان باب الاجتهاد مفتوحا، وإذا كان العلية من أصحاب أحمد وأتباعه قد استنكروا أن يخلو زمن من المجتهدين المطلقين المستقلين، فإن هذا المذهب يكون ظلا ظليلا لأحرار الفكر من الفقهاء، ولذلك كثر فيه العلماء الفطاحل في كل العصور. وبعض العلماء كان إذا اطلع على ما في ذلك المذهب الأثري من خصوبة، وحرية البحث، ورجوع إلى الأثر: يطرح مذهبه الذي كان يعتنقه، ويلجأ إلى المذهب الحنبلي الواسع الرحاب، الخصب الجناب. فإذا قل عدد معتنقيه من العامة وأشباههم، فقد كثر عدد معتنقيه من المجتهدين وأمثالهم.. وحسبه أن يكون فيه الإمامان ابن تيمية وابن القيم.. ومن الحق علينا بعد هذا العرض أن نقرر أن ذلك المذهب الحنبلي هو مذهب في عناصر أصوله كل الأسباب التي تنميه. وقد وجد رجال علوا به وساروا به إلى الطريق الأمثل فأوجدوا فيه حياة تتسع لأحكام الحوادث في كل الأزمنة والأمكنة».

فلا مكان – البتة - للفرية التي تقول: إن المذهب الحنبلي ضيق الأفق، وينزع إلى الجمود.. لا مكان لهذه الفرية في ضوء الحقائق الساطعة، والأدلة القاطعة التي ساقها الشيخ أبو زهرة - رحمه الله تعالى.

ثانيا: فرية أن المذهب الحنبلي ينزع إلى «التكفير» أو يتساهل فيه.. وهذه فرية أكثر بطلانا من الفرية السابقة.. ولنرجع – أيضا - إلى ما قاله أبو زهرة عن موقف ابن حنبل في مسائل الإيمان والكفر.. يقول أبو زهرة - في الكتاب ذاته: «أما أحمد بن حنبل رضي الله عنه فهو يقرر في عدة مواضع أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. فقد جاء في كتاب المناقب لابن الجوزي أن أحمد رضي الله عنه كان يقول: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.. والبر كله في الإيمان).. ويقول إن صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأقر بجميع ما أتى به الأنبياء والرسل، وعقد قلبه على ما ظهر من لسانه، ولم يشك في إيمانه.. ولا يخرج المسلم من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو أن يرد فريضة من فرائض الله جاحدا لها، فإن تركها تهاونا وكسلا كان في مشيئته إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.. ولا يكفر أحد من أهل التوحيد بذنب وإن عملوا بالكبائر.. وأما المعتزلة فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم يكفرون بالذنب. فمن كان منهم كذلك فقد زعم أن آدم كافر وأن إخوة يوسف حين كذبوا أباهم كفار. وأجمعت المعتزلة أن من سرق حبة هو في النار، وتَبِين منه امرأتُه، ويستأنف الحج إن كان قد حج»!!!

يُستنبط من هذا:

أ - أن الإمام أحمد كان يتشدد جدا في مسألة التكفير، فقها وورعا.

ب- وأنه – لذلك - كان يكر على المتساهلين في تكفير المسلم - كالمعتزلة والخوارج - بالنقد العلمي الذي يهدم حجتهم ويبطل دعاواهم.