الآن.. هل يمكننا الحديث عن «نهاية التاريخ»؟!

TT

ربما كان الحديث عن النهايات سائدا في الثلث الأخير من القرن العشرين، إذ صعدت تباشير «النهايات» من نهاية الجغرافيا إلى نهاية التاريخ إلى نهاية الفلسفة بل ونهاية الإنسان. والحديث عن النهايات إنما يشكّل البحث عن «مراحل الذروات» وأساس «نهاية التاريخ» انطلق من جدلية هيغل، ومن ثم تأويلات فاتيمو وصولا إلى «أطروحة» فوكوياما التي تعتبر من أشهر الأطروحات المثيرة للجدل في تلك الفترة. حتى لم يبق مفكر إلا وتحدث عنها ضربا أو تحريرا أو نقدا وتأييدا. وهي من نوع الأطروحات التي تشغل النقاش أكثر من كونها نظرية مشيدة متكاملة، بل هي أقل من ذلك بكثير، فهي تشبه أطروحة «صراع الحضارات» لهنتنغتون. لهذا فإن البحث عن الذروات الآن لم يعد قائما وذلك لفعل التشتت والتفتت التي تشهده الكليات الكبرى في القرن الحادي والعشرين.

لا علاقة لـ«نهاية التاريخ» بـ«الحداثة البعدية» فبينهما بون شاسع، ذلك أن الحداثة البعدية منذ ليوتار وهي تتحدث عن توزع المراكز، وتهشم النظم المشيدة، ومن ثم لتتحوّل الفلسفة إلى «صناعة المفاهيم» كما يعبّر جيل دلوز، وعليه فإن الحال التي نعيشها هي حال «ما بعد الذروات» ذلك أن الظواهر تسير على السطح أكثر مما تصعد نحو السماء.

من هنا فإن الصرعات المستمرة على مستوى «الفيديو كليب» أو «الأزياء والموضة» أو «الطبخ والأطباق» أو انتشار «التفاهة الضرورية» كل تلك الحالات وغيرها، إنما تؤكد على تغير مستوى «الذروات» وطريقة حركتها.

المفهوم بالمعنى الدلوزي يولد من دون ذروة، يولد بساق من دون جذر أو ثمرة، فهو مسطّح. كذلك النزعات التي تصاحب الحداثات المتوالدة حاليا لا تشهد النهايات ولا تعترف بها.

الحالات التي نعيشها لا تبحث عن نهاياتها، بل هي بين الحياة والموت. بعض المفاهيم تشتغل، وبعضها ينطفئ ويموت، حين نأخذ مفهوما صوفيا قديما كـ«الفيض» نجده شغّالا وفعّالا منذ عشرة قرون تقريبا. بينما مفاهيم انتهت واندثرت وهي مولودة في القرن العشرين.

إن البحث عن أطروحات تتناول الذروات أو البطولات بات ممتنعا في زمن السيولة المعرفية والتقنية وبزمن لم تعد العولمة فيه فكرة، بل انتهت العولمة كأطروحة لكنها تسكننا كأسلوب كما نرى في العالم الآن. في السياسة نجد موسكو بوجه واشنطن، كما أن إيران في الحضن الأميركي، وأميركا الأسطورية تتضاءل صورتها، والقادة على الصورة القديمة انقرضوا، لن تعثر في القرن الحادي والعشرين على من يشبه «إبراهام لنكولن» مثلا، تلك مرحلة انتهت في زمن التفتت وتحول الظل إلى مركز والجسد إلى ظل، كما تعبر نصوص الحداثات الفوّارة المتجددة المصارعة لكل قديم.

في حوار أجراه الزميل ممدوح المهيني ونشر في «الشرق الأوسط» بتاريخ 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2013 مع الصحافي الأميركي كريستيان كارل أحد كبار مجلة «نيوزويك» الأميركية التي أغلقت أبوابها هذا العام قال: «باتت الحاجة أقل لقادة عظماء يحدثون إنجازات كبيرة. العالم يدفع لإنتاج قادة تكنوقراط». وهذا الذي يجري إذ تحوّل رؤساء دول عظمى إلى عاقدي صفقات وإلى ضعفاء لا يختلفون عن رئيس أي شركة، من هنا تكون «الإمبراطورية» في القرن الحالي متراجعة على عكس الذي كانت عليه في القرن العشرين، رغم امتلاكها القوة، غير أن التفتت وتساوي الرؤوس وانتهاء الصراع بين الإمبراطوريات في الشرق ضد الإمبراطوريات في الغرب، كل ذلك شكّل نافذة نحو تهاوي «القيم» أصلا لتكون ضمن سياق القانون التقني لا النظرية الأخلاقية والذي يجري بسوريا الآن أكبر مثال، ذلك أنه لا أحد في العالم يريد التدخل ولا أحد يغريه التدخل أو يشعر بمسؤولية التدخل.

السطح أصبح ممتعا مهما تجرّد من معناه في بعض وجوهه. حتى إن صيغ الإعلام الحديثة أنصفت التفاهة التي أقصيت من المجال الفني على مدى قرون. الآن باتت هناك أنشطة خلابة هي على مستوى من اللامعنى، تمتعك بسطحيتها. بعض نجوم هوليوود قيمتهم الكبرى في الأفلام التي تنتج من دون أن تحمل المعنى، نتابع جديدهم بحثا عن سطحية عالية نتابع جديد التفاهة وصرعاتها، والتفاهة تكتسب أهميتها إعلاميا وإعلانيا وسينمائيا، وهي عنصر جذب، لأنها تعطيك فقط لحظات تسلية من دون أن تضطر للبحث عن معنى، أنت لن تجده، ومن ثم صار الهامش مركزا بفضل التفاهة ذات القيمة المكتسبة بالسوق، كما أن هناك مومياءات إعلانية وأيقونات يتهافت عليها سوق الإعلان، لقوة تفاهة الشخصية ومحافظتها على شروط «التفاهة القيّمة» لم تعد التفاهة هامشا منفيا. هذه هي الحالات التي لا تتجه نحو الذروات، وإنما هي مثل نيران الأعراس تشتعل وتنطفئ من ذاتها، وهي لا تبحث عن صيغ أو معان وإنما ترتد إلى حيث بدأت لتتوالد حالات أخرى جديدة ضمن الحداثات الفوارة التي لم تعد تؤرخ على طريقة التحقيب التاريخي لفرط تجددها.

نحن في زمن تفتت الكليات، وتساوي الرؤوس، وفقدان القادة الكبار، وتسيد الخبير على الفيلسوف، من هنا تأتي التحولات الكبرى التي أشار إليها جيل دلوز تلميحا في بعض أطروحاته، الأمر الذي جعل ميشال فوكو يقول حينها: «قد يكون هذا العصر عصرا دلوزيا بامتياز».