«الديمقراطية».. جدل التنظير وعجز التطبيق

TT

فوجئ أفراد المنتخب السعودي لكرة القدم بأن إدارة مطار بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، ستصادر أجهزة هواتفهم الجوالة وأي جهاز إلكتروني محمول أثناء دخولهم البلاد التي شهدت مباراة بين المنتخبين لتصفيات كأس العالم 2010. قيل لهم آنذاك إن السلطات لا تسمح لمواطنيها باستخدام هذه الأجهزة وتحظر دخولها للبلاد وهذا ما سيطبق في حق الأجانب. هذا ما جعلنا اليوم لا نستغرب من خبر إعدام سلطات بيونغ يانغ عشرات المواطنين قاموا بمشاهدة برامج تلفزيونية لجارتهم الجنوبية. الشرطة اقتادت الآثمين، وأعدمتهم في ميادين عامة، بعد حشد الألوف، بينهم أطفال، للمشاهدة والاتعاظ. هذه الدولة التي تقبض فيها ثلة متنفذة على الحكم تهيمن على صنع القرار وعلى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وعلى الذائقة العامة والسلوك الاجتماعي لما يزيد على 25 مليون نسمة، يطلق عليها جمهورية كوريا «الديمقراطية» الشعبية.

كل أنظمة الحكم التي خضعت للتجربة منذ التاريخ وحتى اليوم تشوبها شوائب وتعترضها تناقضات حين تطبيقها، لكن تظل المسألة نسبية بالنهاية، وهذا ما يجعلنا نتفق أو نختلف على أي نظام حكم في العصر الحديث هو أقرب لتحقيق الأمن والتنمية المستدامة، بيد أن التلبس بشعارات تخالف مخالفة صريحة لواقع التطبيق لا يمكن إلا أن نضعه موضع انتقاد واستنكار.

حزب البعث العربي باعتباره أكبر آيديولوجيا حاكمة في المنطقة العربية، هو مثال آخر على ادعاء مفاهيم وقيم ليس بهدف السعي لتطبيقها، بل لاستخدامها في التنظير وكسب الجمهور المتعطش للبيئة الأخلاقية والإنسانية المفقودة. أهداف الحزب التي تتمثل في: الوحدة والحرية والاشتراكية، لا أساس لها في الواقع منذ نشأة الحزب في أربعينات القرن الماضي وحتى اليوم، رغم أنه مارس الحكم في أكبر الدول العربية كالعراق وسوريا واليمن، وانتشرت آيديولوجيته في فلسطين والأردن ولبنان. الوحدة المزعومة بين البلدان العربية لم تصمد أكثر من ثلاث سنوات بين مصر وسوريا؛ لأن السوريين شعروا أن قبضة الراحل جمال عبد الناصر ستخنق الهوية السورية، أما صدام حسين البعثي فقام باحتلال دولة عربية جارة، ولم يطرده منها إلا الغرب الذي يدعي محاربته. أما حديث الحرية في واقع حزب البعث فحدث ولا حرج ولا عتب ولا أسرار، فمشاهدة سريعة في هذه اللحظة لقناة إخبارية ستظهر قناعة حزب البعث السوري بمفهوم الحرية. أما عن الاشتراكية فقد غدت «انفرادية» بوسائل الإنتاج وأدواته ومحصلته في يد طبقة متنفذة.

الشعارات بين التنظير والتطبيق حديث طويل مليء بالبراهين على فشل واضح في تنفيذها على أرض الواقع، عمدا أو جهلا أو عجزا.

في الشارع العربي يبرز اليوم حوار على قدر كبير من الوجاهة حول أيهما يسبق الآخر؛ الديمقراطية أم وعي المجتمع؟ الفريق الأول يرى أن تطبيق النظام الديمقراطي الذي يتمثل في حكم الأغلبية وسيادة القانون والفصل بين السلطات ونظام انتخابي نزيه، سيحث المجتمع على تصحيح نفسه بنفسه مع مرور الوقت، ويدللون على ذلك بالهند والبرازيل اللتين اختارتا الديمقراطية وعززتا ثقافة المجتمع للإيمان بها، وأصبحت ممارستها مع الوقت مطلبا شعبيا، وها هما الدولتان من أنجح الدول سياسيا واقتصاديا، بل وأطلت برأسها لتنافس الغرب في الصدارة على الأسواق العالمية.

الفريق المخالف يعتقد أن الوعي شرط أساسي لتطبيق نظام حكم ديمقراطي، وأن الديمقراطية بلا وعي مجتمعي هي ديكتاتورية بثوب أنيق، مستشهدين بتجربتي العراق ولبنان والجزائر، حيث فاز في انتخاباتها حزب سياسي لم يسمح له بتشكيل الحكومة وإدارة البلاد. كما يرى هؤلاء أن المواطنة جزء لا يتجزأ من الوعي، وبالتالي من غير المقبول أن تجري انتخابات عامة في دولة يدين بعض أبنائها بالولاء لدولة أخرى، لأن ذلك يعني تأسيس حكومة وبرلمان بسيادة منقوصة كما هو واضح في لبنان وعلى قدر أقل في الكويت.

في رأيي الشخصي، هناك فريق ثالث يقع في المساحة الوسطى بينهما، وهو ما يتمثل في التجربة المصرية الحديثة مع الديمقراطية. الشعب أزاح نظاما غير ديمقراطي، وجاء بجماعة الإخوان المسلمين من خلال صناديق الانتخاب، لكن الجماعة تعاملت مع كرسي الحكم بانتهازية الموقف ومبدأ اقتناص الفرص بالاستئثار بالسلطات والدستور والشارع.

هل يمكن التأكيد بأن هذه ممارسة صحيحة لمفهوم الديمقراطية؟ وماذا عن وعي المجتمع، هل كان كافيا لتمرير أدوات العمل الديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع ومحاولة التأقلم مع الحاكم المنتخب؟

التجربة المصرية في أغلب الظن هي من ستحدد الخطوط العريضة للتجربة الديمقراطية في المنطقة العربية، المختبر المصري تجري فيه اختبارات الوعي والمواطنة والعمل السياسي وبناء الدولة على مقاييس البناء الحديثة، أي الديمقراطية الليبرالية التي تنظر لحقوق الأقليات والأفراد بلا تحيز أو استثناء. والدليل الظاهر على ذلك هي ثورة الشارع على الرئيس المنتخب مرسي بعد عام واحد من توليه السلطة، أي أن مصر بالوعي الذي حاولت من خلاله أن تكون الهند أو البرازيل، ولكن حينما اكتشفت أنها ستصبح لبنان أو العراق أفشلت التجربة الديمقراطية الأولى لها. إذا لم يسم هذا وعيا فماذا يمكن أن نسميه؟ مع الأخذ بالاعتبار أن مصر تعاني من قدر معتبر من أميّة تعليمية وثقافية، ومع هذا قاومت المد الديكتاتوري الذي جاءت به رياح الديمقراطية.

أحيانا على المرء أن يختار قبل أن تفرض عليه الخيارات، فليس بالضرورة أن يستميت المصريون بشكل مفاجئ ليكونوا سويسريين بنظام ديمقراطي ليبرالي، ولكن من الضرورة القصوى أن لا يقبلوا أن يكونوا مثل كوريا الشمالية، يصلبون على الأوتاد، لأنهم شاهدوا برنامجا تلفزيونيا، أو يقذفون في أعراضهم بسبب مشهد تمثيلي.

[email protected]