لبنان: صندوق البريد المفخخ

TT

لم ينتظر حزب الله اللبناني طويلا قبل اتهام «عملاء إسرائيل» بارتكاب تفجيري محيط السفارة الإيرانية في ضاحية بئر حسن (جنوب بيروت). وفي المقابل، لم تنتظر الجماعات المحسوبة على «القاعدة» طويلا قبل إعلانها تبني التفجيرين.

وراء الإعلانين غايات سياسية حتما، وكذلك هناك غايات سياسية واضحة وراء تفجيرين بهذا الحجم وهذا التوقيت.

ماذا يريد «الحزب» عبر اتهامه إسرائيل و«عملاءها»؟ يريد، على الأرجح، استعادة «شرعية» سلاحه الذي حوله منذ 2006 بعيدا عن إسرائيل، ومن ثم زج به في أتون حرب أهلية إسلامية - إسلامية باسم قتال ما يسميهم «الجماعات التكفيرية». والحال، أنه رغم خفوت بريق القضية الفلسطينية، والأخطاء التكتيكية والاستراتيجية المتراكمة التي ارتكبتها القيادات الفلسطينية، فتح ثم حماس، ما زالت قضية فلسطين معيارا أو محكا لشرعية أي سلاح عربي. ومن هنا، ما كان لدى حزب الله، والقوى التي تقف خلفه، من خيار غير اتهام «عملاء إسرائيل والصهيونية» لتجاوز الواقع المرير الذي يعبر عنه إسهامه وإسهامها في تهجير ملايين السوريين الأبرياء المشردين - من «غير التكفيريين» طبعا - وعشرات المدن والبلدات والقرى المدمرة... ناهيك بنحو 200 ألف قتيل ومفقود.

بدأ «الحزب» تبريره التدخل العسكري في سوريا - كما نتذكر - بحماية المزارات المقدسة، ومنها مقام السيدة زينب في دمشق، والقرى الحدودية التي يقطنها «لبنانيون» في غرب محافظة حمص. وبعدها، اتسعت دائرة التدخل واكتسب مبررات إضافية، فعند وصول قوات «الحزب» إلى نبل والزهراء والفوعة في شمال سوريا... ما عادت ذريعة «المزارات» واردة ولا حماية «اللبنانيين» هناك قابلة للتصديق. وبالتالي، انتقلنا إلى تبرير أخطر ألا وهو قتال «التكفيريين». الانشغال بقتال «التكفيريين»، رغم استمرار «احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا» الذي استوجب احتفاظ «المقاومة» بسلاحها بخلاف باقي اللبنانيين، يعني أمرين لا ثالث لهما. الأول: أن ثمة قضية أخرى أكثر جدية من الاحتلال الإسرائيلي الذي من أجله وجد سلاح «المقاومة»، والثاني، أن لا مانع من قتال «التكفيريين» الذين «يكفرون» خصومهم باسم الإسلام.

بالنسبة للأمر الأول، لا بد من تذكر أن النظام السوري اتهم إسرائيل وأميركا وبعض الدول الغربية والعربية بإشعال فتيل الثورة عليه، لأنه «عدو» لدود لإسرائيل والإمبريالية. لكننا اكتشفنا لاحقا أن لا إسرائيل ولا أميركا ولا دول الغرب «الإمبريالية» مستعجلة على التخلص منه. بل أوضحت تل أبيب وواشنطن صراحة أن لا نية لأي منهما بمهاجمة سوريا، وبالأخص، بعدما سلمت دمشق مخزونها من السلاح الكيماوي المخصص سابقا «لتحرير فلسطين»!

أما بالنسبة للأمر الثاني، فبديهي أن إيران، واستطرادا حزب الله، لا يريان خطر فتنة إسلامية - إسلامية (سنية - شيعية) من قتال «التكفيريين». وإذا ما اعتبرنا أن إيران «جمهورية إسلامية» وأن حزب الله تنظيم إسلامي وشعاراته إسلامية - فهذا يعني التشكيك في «إسلام» الخصم الذي يقاتلون... أي «يكفرونه»، ما يوقعهم في التهمة التي يلصقونها به.

بعدها، بهدف طمأنة المسيحيين المؤمنين بـ«تحالف الأقليات»، ظهر مبرر ثالث هو أن التدخل في سوريا جاء «لمنع تسلل الفتنة إلى لبنان» (!). مع هذا، منذ التدخل تكاثرت التفجيرات ومحاولات التفجير، وتبين أن بعض المتهمين بها مقربون من النظام السوري. ثم أدى تدفق النازحين السوريين - ومعظمهم من السنة – إلى خلق تعقيدات إضافية. بداية، أوجد حالة من التشنج الديني والمذهبي، إذ ازداد قلق جماعات مسيحية تخشى ديمومة النزوح وتحوله إلى الاستقرار، وبالتالي تسريع تهميش المسيحيين عدديا في بلد غدوا فيه أقلية فعلية. وثانيا، رفع حرارة الاستقطاب المذهبي، وخصوصا أن حزب الله وأتباع نظام دمشق في لبنان حريصون على حماية ظهورهم بتشكيل جماعات مسلحة غير نظامية خارج مناطق الكثافة الشيعية. وثالثا، أنه غدا مستحيلا التأكد من أنه ليس بين النازحين السوريين جماعات «جهادية»، وذلك بعدما أسقط حزب الله وغيره الحدود بين البلدين وفتحت خطوط التموين والإمداد العسكري. ورابعا، أن الأوضاع المتفجرة على طول الحدود اللبنانية - السورية المنتهكة أوجدت حالة غاية في الخطورة في منطقة البقاع الشمالي (المتاخمة لجبهة القلمون)، وتحديدا في بلدة عرسال السنية ومحيطها الشيعي. وبالأمس، نبه الوزير وائل أبو فاعور والنائب بهية الحريري خلال لقاء حضرته فعاليات سنية ودرزية من «تصدير» الفتنة المذهبية إلى البقاع الجنوبي (أي البقاع الغربي ووادي التيم) على وقع التوتر المفتعل في منحدرات جبل الشيخ وبلدات ريف القنيطرة وجنوب ريف دمشق.

إذن، غاية حزب الله المعلنة عن تدخله في سوريا «لمنع تسلل الفتنة» إلى لبنان سقطت، وما هو أكثر إثارة أن بعض من أسقطوها حلفاء لـ«الحزب»!

وهنا، نصل إلى «القاعدة» أو التنظيمات المحسوبة عليها. لا شك في أن الوضع في سوريا اليوم يختلف تماما عنه عند اندلاع الثورة الشعبية السلمية في مارس (آذار) 2011، إذ بدأت الثورة مع أطفال درعا بريئة وسلمية، غير أن النظام واجهها بالطريقة الوحيدة التي يتقنها. فبعد الاستعلاء على أهالي درعا وإهانتهم.. اعتمد الرصاص الحي في التحاور مع مطالب الانفتاح والإصلاح.

في مارس 2011، ما كانت هناك مطالب بسقوط النظام، ولا كانت هناك «قاعدة». غير أن أركان النظام ومن يدعمه أدركوا أن التصدي لثورة شعبية حقيقية لا يمكن أن ينفع إلا عبر تصعيد القمع العسكري وصولا إلى الحرب الشاملة بشتى أنواع الأسلحة، وكذلك استخدام «الطوابير الخامسة» والأسلحة الخفية الأخرى من الفصائل الإرهابية والمتشددة التي سبق للنظام أن رعاها واستغلها بقصد إرباك المعارضة وتشتيتها وابتزازها. ثم شهدنا انهيار سلطة النظام على المعابر الحدودية، ومعه بدأت الزمر والجماعات من شتى التوجهات تتدفق على البلاد، كذلك فتح النظام أبواب السجون أمام «إرهابييه» ليخرجوا ويمارسوا دورهم «الأمني والميداني» في شق المعارضة ومجابهة «الجيش الحر»... وهذا بالضبط ما حصل. اليوم، أجهزة أمن النظام وراء الكثير من التعديات والتجاوزات المرتكبة باسم «المعارضة» داخل سوريا، وفي لبنان.

هذه حقيقة يعرفها حزب الله.. مثلما يعرف جيدا طبيعة ذلك النظام الذي يدّعي الممانعة والعلمانية والعروبة.