المتطرف ليس «مفحطا تائبا»!

TT

سيل النقد الجارف واجه اللقاء الذي أجراه الإعلامي البارز داود الشريان مع المعتقل وليد السناني، الذي يشكل ظاهرة يعرفها من كان قريبا من فعاليات ونشاطات الجماعات المتطرفة في التسعينات. ولكن على الرغم من ذلك، فسح الحديث عن بنية هرمية خاصة للعنف المسلح الذي اتخذ مرحلة لاحقة في التشكل بعد أن أفرزت مرحلة ما بعد أفغانستان انصهار المجموعات المقاتلة، التي جاءت من خلفيات متباينة: متدينين تقليديين وسلفيين وإخوان، وكانوا في مركز القيادة، إضافة إلى القادمين من محاضن التعبئة التي كانت تعمل على تجنيد كوادر للقتال، لا سيما بين حديثي التدين، وبمواصفات خاصة يعرفها من عاش تلك المرحلة بكل تفاصيلها.

السناني مع آخرين ليسوا من الشخصيات المرجعية في تيار «التطرف التكفيري»، بمعنى أن تحصيله الشرعي المتواضع جدا لا يؤهله لدور كهذا، كما أنه ليست من الشخصيات العسكرية القيادية أو حتى ذات البعد الاستراتيجي والتنظيري. إنه أقرب ما يكون للشخصيات الملهمة للمتشككين والمترددين، وذلك من خلال «الثبات» على الفكرة والشجاعة في اعتناقها والتصريح بها، وهي صفات لا تحمل دلالة إيجابية أو سلبية، فالثبات وعدم تغير الرأي وصلابة الموقف أمر لم تختص به رموز «القاعدة» أو التطرف الفكري، بل له ما يوازيه ويتفوق عليه لدى كل المنظمات الثورية التي تؤمن بالحل المسلح، ولو قرأنا فقط نماذج لمناضلين وثوار ينتمون إلى تيارات ماركسية متطرفة في ثباتهم ودون محفز ديني لعلمنا أن القضية ليست لها علاقة بالثبات على «الحق»، بل على «الفكرة المسيطرة» التي يمكن أن تتحول إلى إشكالية نفسية عميقة جدا، بحيث تصبح «هوية» لا يمكن للمرء أن يحقق ذاته من دونها، وهذا المدخل النفسي إحدى أهم البوابات التي يمكن من خلالها فهم الخريطة النفسية لشخصية معقدة على عكس ما تبدو شخصية وليد السناني.

وربما لو تابع جمهور «تويتر» على سبيل المثال الفيلم الوثائقي الفرنسي الذي أنتج عن الإرهابي الشهير كارلوس لربما صادفوا شخصية لا نظير لها في كل تاريخ جماعات العنف المعاصرة، وتلك قصة أخرى لن أتحدث عنها كما هو الحال الحديث عن كارثة اللقاء من حيث طريقة إدارة الحوار التي كانت أقرب إلى حوارات «مفحط تائب»، حيث تكنيك الاستجداء العاطفي والتودد وليس المحاجة وتفكيك الأصول النظرية والنفسية لشخصية لا تشكو من قلة «عاطفة»، بل من سوء إدارة لها وفهمها، لذلك عادة ما تتقدم الشخصيات «الكارزمية» في «القاعدة» وأخواتها وتتراجع الشخصيات العلمية في الظل وتختفي القيادات العسكرية لطبيعة عملها السري، لذلك تقدم بن لادن الكارزمي على المقدسي وأبو مصعب السوري الشرعيين، فضلا عن أن أكثر شخصيات «القاعدة» خطورة ما زالت غير معروفة على الصعيد الجماهيري.

المفاجئ جدا هو ما كشفه اللقاء من «الوعي» بخطورة «التكفير والتطرف» لدى شرائح واسعة من المجتمع السعودي، التي آمل أن خفافيش «تويتر» بالأسماء المستعارة لا تعكس حجمها في الواقع، وإلا فإننا بإزاء كارثة فكرية مستدامة متمثلة في التعاطف مع «التكفير» الذي لا يمكن أن يكون «رأيا»، لا من حيث التوصيف السياسي ولا القانوني ولا الفكري، فالتكفير الموجه من شخص إلى آخر بناء على جدل فكري لا يعبر عن رأي بسبب لوازمه، فكيف بالتكفير بالجملة، تكفير الدولة والعلماء والعسكر وموظفي القطاع العام؟! لك أن تتخيل ما يعني ذلك من تجريدهم من الشرعية التي تحمي أموالهم وأعراضهم وحياتهم. بالطبع ولأن اللقاء كان أقرب للحوار الشخصي الحميم لم يتعرض لتصور الضيف والتيار الذي يمثله لمفهوم الدولة والحاكمية والولاء والبراء والتكفير والموقف من النظام العالمي الجديد، وهي آراء لو طرحت بدل محاولة التركيز على أن الضيف ممسوس بالجن ومحاولة إسقاطه عبر بوابة الاختلال العقلي لما وجدت هذا الكم من التعاطف. السناني كان يردد إشكالات فكرية ومواقف سياسية مضى على تأسيسها كمرجعية لتكفير الدولة والعلماء أكثر من قرابة ثلاثين سنة، وما زالت الأجيال التي خاضت تجربة «التطرف» تكررها بذات الطريقة، وهو ما يؤكد أن هذه الأفكار لم تتعرض لدراسات بحثية جادة تفككها.

قبل سنوات كتبت عن أن قاعدة التكفير أخطر من قاعدة التفجير، إلا أننا الآن بإزاء نوع جديد من التعاطف الذي يشبه تحالفات تنظيمات اليسار مع التطرف الديني.

«القاعدة» ليست منظمة فحسب، وكما يقول أحد أهم رموزها بالمطلق الشيخ أبو مصعب السوري: «ليست منظمة ولا ينبغي لها أن تغدو منظمة، وإنما هي (دعوة ومرجعية ونهج)»، والسؤال: هل يتخيل المتعاطفون معها نتائج هذا المنهج في حال رغبوا في تطبيقه وتعميمه؟!

الفجوة بين النجاح الأمني وإدارة ملف المعتقلين وبين تعميم الوعي بخطورة «التكفير» كبير جدا، ومن الخطأ تحميل ذلك العبء على جهة دون غيرها.

والذي يعرفه الباحثون، لا سيما في موجة «جغرافيا الإرهاب»، بمعنى لماذا ينتشر التطرف في بلد دون آخر رغم الظروف المتشابهة الأخرى اقتصاديا أو تركيبة اجتماعية أو تحديات سياسية، أن فكرة الانخراط في مجموعات متطرفة تزداد قبولا في المناطق التي تخلو من برامج حماية فكرية وتربوية. فغياب برامج من هذا النوع تترجم عادة إلى مواقف حدية منفعلة تنتظر لحظة الغليان التي يغيب معها أي حديث عن المنطق والعقل، لا سيما إذا صادف ذلك أجواء سياسية عصيبة كالتي تمر بها المنطقة، والحديث يطول.

[email protected]