الشارقة.. قصة نجاح

TT

كيف تصنع لنفسك خطا ومنهجا مختلفا وبالتالي مميزا في حياتك؟ هذا هو السؤال الخالد والباقي الذي كان دوما المحفز والملهم الأبرز للمفكرين والباحثين في مسألة صناعة الذات وتطويرها، حيث مكنهم ذلك من تأليف أعداد غير بسيطة من الكتب والمؤلفات وإقامة المحاضرات والندوات عن هذه المسألة بإسهاب غير بسيط أبدا. ويبدو الحديث في هذه المسألة إذا ما كان متعلقا بتنمية الذات عقلانيا متوقعا، ولكن أن يكون متعلقا بتخطيط المدن والمناطق فهذا تحد من نوع آخر ومختلف تماما. وهذا تماما ما قررت الشارقة أن تقدم عليه منذ أكثر من عقدين من الزمان، فهي توجهت لأن تكون مدينة وإمارة تعتمد على مدخولها الأساسي من خطها التعليمي والثقافي بشكل واضح. وكان هذا التوجه مغايرا تماما للاتجاه العام السائد في أكثر من مدينة ومنطقة بالإمارات العربية المتحدة نفسها أو بمنطقة الخليج العربي أو حتى الشرق الأوسط نفسه ككل، فالاهتمام الأساسي كان بتأسيس المناطق الحرة والموانئ والمطارات والمناطق الصناعية، لكن الشارقة اختارت طريقا آخر، وركزت على قطاع التعليم والثقافة.

أسست منذ سنوات الجامعة الأميركية بالشارقة، حيث نمت بشكل متأن ولكن متواصل ونالت عبر السنوات الجدارة والاحترام والاستحقاق، وتفوقت بقوة وباتت خيارا ثالثا محترما للجامعتين الأميركيتين في بيروت والقاهرة صاحبتي التاريخ الطويل. وتحولت هذه الجامعة مع الوقت إلى قصة نجاح محلية من الداخل «ORGANIC»، وولدت كفاءات يشار إليهم بالبنان والتميز.

كذلك كان للشارقة الاهتمام والسبق بمنظومة العمل الإنساني المبني على العمل المؤسساتي، فكونت مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية التي هي عبارة عن منظومة من العمل والتعليم والتدريب والتأهيل لأصحاب الحالات والاحتياجات الخاصة.. ويذكرني هذا ما تقوم به هولندا على سبيل المثال في هذا المجال بشكل مميز. وتميزت الشارقة بمنظومة محترمة ومميزة من المعارض والمؤتمرات، ولعل أبرزها معرض الكتاب السنوي الذي تحول إلى أحد أهم معارض الكتب في العالم العربي من ناحية المعروض والمناسبات المهمة المصاحبة له، محولة له إلى مهرجان ثقافي بامتياز.

والشارقة لديها قناعة بأن التعليم والثقافة يمكن أن يكونا من روافد الاقتصاد الأساسية، مثل مدينة بوسطن الأميركية المليئة بالجامعات والمعاهد والكليات والمدارس في شتى المجالات، حتى تحولت هذه الظاهرة إلى ما يعرف بـ«اقتصاد بوسطن التعليمي»، وكذلك كان الأمر في بيروت قديما قبل الحرب الأهلية، وإلى حد ما في الأردن أيضا. الشارقة بهذا النهج أخذت خطا مميزا انعكس على مناخها العام الذي تحول مع الوقت إلى «مطبخ للتفكير والتأمل.. وتجهيز للعقل».. كل ذلك تحول مع الوقت إلى سمة وميزة تنافسية للإمارة بشكل لافت وانعكس أيضا على صحيفتها التي أصبحت في طليعة صحف الإمارات. الشارقة أثبتت أنه بالإمكان صناعة اقتصاد تعليمي ثقافي عصري وحديث يكون له ميزة تنافسية مثل الاقتصاد الصناعي والتجاري والخدمي والصحي، وهي تجربة تستحق الوقوف أمامها بتأمل واحترام لأنها تجربة فريدة وغير تقليدية وغير مكررة.

التعليم والتميز فيه تحد كبير وامتحان هائل، وكلما كانت هناك قصص نجاح مبشرة ومطمئنة يكون التحدي مقبولا وبشائره واضحة. الشارقة تستحق التحية والاحترام على تجربتها الناجحة.