رد على نقد

TT

اطلعت على الانتقادات التي وجهها لي الأستاذ خالد الغنامي تحت عنوان «هاشم صالح والقبوع في زمن التنوير». وقد ترددت كثيرا في الرد عليه ليس لعدم وجاهة انتقاداته ومشروعيتها وإنما لكي أتحاشى المماحكات الجدالية قدر الإمكان. ولكن رأيت في نهاية المطاف أن الرد أفضل من التجاهل لأن المناقشة الخلافية - إن لم نقل الديمقراطية - قد تؤدي إلى إيضاح بعض الإشكاليات المطروحة على الثقافة العربية حاليا. وهذا إنجاز ليس بالقليل إذا ما تحقق. ماذا يعيب عليّ الكاتب المحترم؟ ثلاثة أو أربعة أشياء دفعة واحدة. إنه يأخذ عليّ تقليد الغرب وليس الشرق وعدم إدراكي للأزمات أو المعضلات التي تؤذن بانهيار الحضارة الغربية. ثانيا يأخذ عليّ حصر أبحاثي كلها في فترة عصور التنوير التي مضت وانقضت منذ قرنين من الزمن، وعدم اهتمامي بالأزمات التي تعاني منها الحضارة الغربية اليوم. ثالثا يعيب عليّ أني أحشر هيغل ضمن فلاسفة التنوير في حين أنه كان أحد كبار دعاة الحكم المطلق والجبرية. وهو من أكبر أعداء الحرية كما يفهمها الغربي المعاصر كما يرى الأخ خالد. رابعا وأخيرا فإن الحرب بين التنويريين ورجال الكنيسة الظلاميين انتهت منذ قرنين كما قلنا وهي لا تنطبق بأي شكل على المشهد العربي المعاصر. هذه هي بعض المآخذ الأساسية التي وردت في مقالته فلنحاول الرد عليها تباعا.

أولا استغربت عنوان المقال ذاته. فعادة يقال القبوع في الكهوف المظلمة لا في زمن التنوير. ولكن لنغض الطرْف عن ذلك فمن حقه أن يختار ما يشاء. لا نستطيع أن نفرض عليه عنوان مقالته! ثانيا ينبغي أن يعلم الكاتب المحترم أن تقليد الحداثة الغربية يقسم مثقفي الشرق الأقصى إلى قسمين أو ثلاثة تماما كما يقسم مثقفي العالم العربي والإسلامي كله. فالصراع بين القدامة/ والحداثة، أو بين الأصالة/ والمعاصرة كان ولا يزال الشغل الشاغل لمثقفي اليابان والهند والصين ناهيك عن الروس. وبالتالي فليس المثقفون العرب هم وحدهم الذين ينهمكون في هذه القصة ويكرسون لها وقتا كبيرا. هناك إجماع لدى أمم الأرض قاطبة على أن الغرب أقلع حضاريا وتفوق على بقية النطاقات الحضارية الأخرى بدءا من عصر النهضة في القرن السادس عشر وبالأخص بدءا من عصر التنوير في القرن الثامن عشر. هذا التفوق لم يكن فقط علميا وتكنولوجيا وإنما فلسفيا أيضا ثم سياسيا ديمقراطيا في نهاية المطاف. مثقفو الغرب لا يأنفون من الاعتراف بأن أوروبا كانت متخلفة عن عالم العرب والإسلام طيلة العصور الوسطى وحتى القرن الرابع عشر أو الخامس عشر. ولا ينكر منصفوهم وعلماؤهم الكبار أن ترجمة فلاسفتنا وعلمائنا إلى اللاتينية ساهمت في انطلاقتهم الحضارية. وبالتالي فلا أعرف لماذا لا نفعل نحن الشيء ذاته؟ لماذا نظل نكابر ونرفض الاعتراف بتأخرنا عن ركب الأمم المتقدمة. ثم لا أعرف لماذا لا نأخذ عنهم كما أخذوا عنا؟ أكاد أقول إن تنويرهم مستمد من تنويرنا وهذي بضاعتنا ردت إلينا.. وعلى أي حال فهذا قانون تاريخي كما يقول ابن خلدون. بالطبع أنا متفق مع الأخ خالد في أن هذا التقليد لا ينبغي أن يكون ببغاويا، حرفيا، أعمى. وأنا شخصيا انتقدت انحرافات الحضارة الغربية وتطرفاتها أكثر من مرة على صفحات «الشرق الأوسط» وسواها. ثالثا نعم إنني أعتبر هيغل من فلاسفة التنوير الكبار وأرفض الصورة الخاطئة الشائعة عنه لدى بعض المثقفين العرب. وهي صورة ساهم في تعميمها كارل بوبر بشكل أساسي وبعض تيارات الثقافة الأنغلوساكسونية التي تكره هيغل كما يقول فرانسيس فوكوياما. انظر كتابه الشهير «نهاية التاريخ»، حيث يعتبره المنظر الأكبر لدولة القانون الليبرالية الحديثة.

رابعا وأخيرا وهنا أصل إلى بيت القصيد. فالأخ الغنامي يقول إن التنوير الأوروبي لا علاقة لنا به ولا ينطبق على وضعنا العربي الراهن. لماذا؟ لأنه حصل في أوروبا قبل مائتي سنة. فهل يعقل أن نعود إلى الخلف قرنين إلى الوراء؟ ما هذا الهراء؟ هذا الشخص يريد أن يعيدنا إلى الخلف بدلا من أن يقدمنا إلى الأمام. عجب العجاب! هذه المغالطة السوفسطائية سمعتها أكثر من مرة وليست محصورة إطلاقا بالأستاذ الغنامي. ولكن ألا يدرك هؤلاء الأخوة الكرام أنهم بموقفهم هذا يساهمون في تأبيد تأخرنا؟ كل علماء الغرب شرقا وغربا مجمعون الآن على القول إن العالم الإسلامي لم يمر بالمرحلة التنويرية بعد على عكس العالم الغربي المسيحي. بل وحتى العالم البوذي - الهندوسي - الكونفشيوسي في طريقه إلى الاستنارة والتصالح مع الحداثة، وبالتالي فلم يبق إلا نحن. الأنظار كلها متركزة علينا خاصة بعد كل تلك التفجيرات الدموية العشوائية التي تتوالى منذ 11 سبتمبر وحتى اليوم. تقريبا نحن الوحيدون الذين لا يزالون يمارسون العنف الأعمى باسم الدين. نحن الوحيدون الذين لا يزالون يشكلون عن تراثهم الديني فهما قروسطيا ظلاميا تكفيريا مرعبا. ولذا أعتقد شخصيا أن التنوير العربي الإسلامي آت لا ريب فيه لأنه يلبي حاجة تاريخية ملحة. التنوير ليس ترفا فكريا أو ثقافيا، وإنما مسألة حياة أو موت، وجود على مسرح التاريخ بين الأمم أو لا وجود. ولكن هذا لا يعني أن تنويرنا سيكون نسخة طبق الأصل عن تنويرهم. وذلك لأنه حصلت أشياء وأشياء منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم. وتجربة التنوير تتعرض الآن لمراجعة راديكالية دون التراجع عن إيجابياتها التي لا تقدر بثمن. أكتب هذا الكلام من سويسرا حيث وقع بصري على كتاب جديد يتحدث عن «الأنوار الدينية»! لم أقرأه بعد ولكنه لافت جدا خاصة أنه من تأليف فيلسوف علماني محض. متى كان فلاسفة أوروبا وخصوصا فرنسا يتحدثون عن أنوار الدين؟! وهذا يعني أنهم شبعوا من الماديات الإلحادية بعد أن غرقوا فيها أكثر من اللزوم. ولكن إذا كانوا هم بحاجة إلى الأنوار الدينية بسبب تخمة الحداثة الوضعية فنحن بحاجة إلى الأنوار الفلسفية بسبب تخمة القدامة التراثية. كل واحد يبحث عما ينقصه..