لبنان ما بعد «الحزام الناسف»

TT

من المفترض أن يندم «تنظيم القاعدة» على ما اقترفت يداه في بيروت، ليس لأن التنظيم الدموي اجتاحته «يقظة ضمير» مفاجئة، ولكن لأن التفجير الانتحاري المزدوج في الضاحية الجنوبية، وهو الأول من نوعه في لبنان، إن بتقنياته أو بطبيعة أغراضه، جاء بنتائج عكسية خدمت إيران وحلفاءها في لبنان، أكثر مما أضرت بمصالحهما.

في الانفجارين المتتاليين، لم يصب من أفراد السفارة سوى الملحق الثقافي إبراهيم الأنصاري وعدد قليل من الحرس، مقابل 20 قتيلا مدنيا و150 جريحا، من مختلف الجنسيات بينهم السفير اليمني، وعمال الهاتف، وشرطي، وعابرو سبيل، وخادمات أفريقيات وآسيويات. كما أن مبنى السفارة نفسه لم يُصب بكثير أذى، فيما تضررت ما يزيد على 100 شقة سكنية مجاورة وهجر أهلها.

أكثر من ذلك أظهرت العملية إيران على أنها مستهدفة بالإرهاب، وضحية لهمجية لا تتقن أبجديتها، وهرع إلى سفارتها رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، ووفود دافقة من مختلف المشارب، ضمنها السفير البابوي، والسفير البريطاني توم فليتشر، الذي بعد أن تبرع بالدم للضحايا، وقدم العزاء، وقف في صف طويل، منتظرا كي يسطر على دفتر السفارة كلمة تؤكد أن الحوار هو الذي يجب أن يسود وليس العنف. هذا المشهد ذو الدلالات البليغة، لم ينتهِ هنا، فقد اغتنمت إيران الفرصة، وأوفدت مساعد وزير خارجيتها حسين عبد الأمير اللهيان، ليحيك خطوط دبلوماسيته، على وقع الحدث، من قلب العاصمة اللبنانية، ويزور المسؤولين اللبنانيين، ويصرح بأن «طهران ستبقى على موقفها الراسخ والمتين في دعم سوريا وفي احتضان محور الممانعة والمقاومة».

رغم أن الانفجارين طالا السفارة الإيرانية التي لها في لبنان أعداء ومناوئون، إلا أن أحدا لم يجرؤ، هذه المرة، على توزيع الحلوى، أو إطلاق الرصاص شماتة، كما حدث بعد تفجيري الضاحية الجنوبية السابقين. بل على العكس من ذلك، ساد وجوم ثقيل، وبدا لبنان من شماله إلى جنوبه متوترا وراجفا. معرفة أن الانفجارين هما نتيجة عمليتين انتحاريتين، وأن أول حزام ناسف انفجر في لبنان، رفع منسوب المخاوف إلى أقصاها، واستدعى صورة الجحيم العراقي.

لم يكن المواطن العادي بحاجة لثرثرة المحللين السياسيين، ولا لبيان القيادي في «القاعدة» سراج الدين زريقات، يهدد باستمرار العمليات، كي يفهم أن بلده دخل منزلقا خطرا، وأن القادم ليس كما سبق.

17 عاما من الحرب الأهلية الشرسة لم تكن العمليات الانتحارية خلالها جزءا من القاموس الحربي.. الانتحار في تلك الفترة، كان يقترن بعملية ضد إسرائيليين، أو أميركيين، على غرار انفجار السفارة الأميركية الشهير عام 1982. بات الانتحار أسهل، صار جزءا من طقوس المنطقة. من مالي مرورا بمصر فالأردن وسوريا والعراق وصولا إلى اليمن، ثمة مئات، على استعداد للموت في سبيل قتل آخرين.

حتى اللحظة بقي اللبنانيون الانتحاريون ندرة، وتنظيم القاعدة كان على قناعة بأن لبنان لا يصلح حاضنة له. هذا ما كان يقوله مقاتلو «فتح الإسلام»، وكل القريبين من التنظيم. الجهاديون يدخلون لبنان ويخرجون منذ بدايات الثورة السورية وحتى قبلها. عددهم تزايد بطبيعة الحال، بسبب احتدام المعارك هناك، واضطرارهم لخلفية جغرافية لمواقعهم. هذا ما جعلهم يحولون لبنان من ممر إلى مستقر وساحة جهاد، مهددين بفتح النار على حزب الله انتقاما من قتاله مع الجيش السوري. ثمة جيوب رتبت في عكار وطرابلس وعرسال ومخيمات فلسطينية، تصلح لاحتضان أعضاء التنظيم. هناك أخبار عن بدء تعيين أمراء، وتقاطع لمعلومات استخباراتية أميركية وروسية، عن نقل متفجرات ومعدات بالأطنان إلى لبنان. كلما احتدمت المعارك في سوريا، إذن، سنسمع تردداتها قوية في لبنان.

«غزوة السفارة الإيرانية» حصلت بعد أيام من عاشوراء وقبل يومين من عيد الاستقلال، وفي منطقة لا تقع في قلب الضاحية بقدر ما تقترب من الكورنيش البحري لبيروت ووسطها، وأحيائها الأكثر رقيا، وأمنها هو مسؤولية الجيش اللبناني الذي لا تكن له «القاعدة» سوى العداء الشديد. في الغزوة الأخيرة، لم يلعب المفجرون جيدا على حساسية الأوتار التي غالبا ما برعوا بها. فإضافة إلى الفرص التي فتحوها للإيرانيين لبنانيا بالتزامن مع المفاوضات الحالية حول النووي الإيراني، استثاروا مخاوف هائلة، لن تستنفر الأجهزة الأمنية فقط، وإنما حذر المواطنين ويقظتهم من وحش يستعد لافتراسهم.

بمناسبة عيد الاستقلال أقام الجيش اللبناني عرضا لمغاوير البحر، أي نخبة الجنود وأكثرهم شراسة، في أحد فروع الجامعة اللبنانية. اللافت هذه المرة، ليس فقط كثافة الحضور، وإنما حماسة الشباب للجيش والتفافهم حوله، وابتهاجهم بعروض القوة من القفز بالحبال إلى أكل الثعابين. هؤلاء الشبان والشابات كانوا بحاجة ماسة، بعد 48 ساعة من مشاهد الهجمات القاعدية المريعة، لأن يحتموا بجيشهم من الجنون الآتي.

ما سمته القاعدة «غزوة السفارة الإيرانية» لم يكن كذلك، فكل لبناني يعلم اليوم، أن الهجوم يتجاوز السفارة ليمس حياته الشخصية وأمن عائلته.

فما قبل ظهور «الحزام الناسف» ليس كما بعده.