محاكمات.. ومماحكات

TT

في أقل من ثلاثة أعوام، حاكمت مصر وتحاكم رئيسين ونظامين، وربما نكون محظوظين فنحاكم الثالث عما قريب مما يهدد بوقوعنا في خطر الإدمان. ولكي أكون واضحا أمامك في هذه المسألة أقول لك: لقد كنت أفضل الإبعاد من مصر إلى مكان يقبل بوجود الرئيسين، ليس حرصا عليهما بل حرصا على الصحة النفسية للشعب المصري ولحمايته من الانشغال بمحاكمات لا تبدو لها نهاية. وهي المحاكمات التي احتلت درجة الأولوية في الانشغال العام. خطوة الإبعاد هذه كانت هي الخطوة الوحيدة التي تضمن لنا فتح صفحة جديدة لكي نواصل طريقنا إلى الأمام، أما الآن فكل الناس مشغولة بصفحات الماضي بحثا ونبشا وتفتيشا، أما الأخطر من ذلك كله فهو الاضطراب العصبي الذي انتاب النخبة فجعلها عاجزة عن وزن الأمور بميزان صحيح. سأعطيك مثالا، لجنة الخمسين التي تعيد صياغة الدستور، التي أعطيت مهلة ستين يوما للانتهاء من عملها، ولكن يبدو أنها كانت في حاجة إلى المزيد من الوقت، فقامت بتفسير «ستين يوما» باعتبارها ستين يوم عمل، وبذلك تستبعد أيام الإجازات من هذه المهلة، طبعا الأمر هنا لا يشكل كارثة، وتفسير اللجنة وارد، وعدة أيام تتأخرها اللجنة في تقديم نتيجة عملها لن يترتب عليها أي متاعب.. ولنرَ ماذا حدث.. ظهر فريقان على الفضائيات، يقدم كل منهما وجهة نظره بحماسة منقطعة النظير.. نعم ستون يوم عمل.. كلا وألف كلا.. ستون يوما تعني شهرين بما فيهما من إجازات.

أنا شخصيا أعتقد أن السبب في هذا الانفجار هو كلمة «عمل» الكلمة غائبة عن الوعي المصري منذ سنوات، ولذلك فجّر استخدامها هذه الضجة بعد أن باتت غريبة ومهجورة.

هناك الكثير مما يجب مناقشته بجد وأمانة في مفاهيمنا عن الثورة. الثورة إجراء حاد وعنيف تلجأ إليه الشعوب عندما يميل ميزان العدل في حياتهم إلى درجة تجعلهم عاجزين عن تحمل الحياة ذاتها، وهنا يثورون بهدف الوصول إلى نقطة يكونون هم المسؤولين فيها عن تحقيق العدل. الأصل في الثورة هو الرغبة في تغيير الحياة وليس المسؤولين أو معاقبتهم، هذا هو بالضبط ما أسميه: فتح صفحة جديدة، وليس الخوض في صفحات الماضي.

أما الكلمات التي يحلو للشبان ترديدها، وبخاصة تعبير الثورة مستمرة، فلا بد أن يراجعوها قبل أن يفوت الأوان. لا تستطيع الثورة أن تحقق هدفها إذا كانت طبيعتها الاستمرار بعد فعل الثورة ذاته. أنت تثور للوصول إلى نقطة ارتكاز تقود فيها شعبك إلى الأمام وليس لتجعله في حالة عدوان دائم على نفسه وعلى الآخرين، مما يجلب عليه الفقر فيكون في حاجة إلى أن تمتد يده طول الوقت إلى الآخرين. يجب ألا نغامر بالوصول إلى وضع نطلب فيه من الآخرين المعونة فيقولون لنا.. والله أصل ظروفنا اليومين دول صعبة.