كيندي والست سيرانوش

TT

هات لي أي سيدة عجوز وأنا أتعهد بأن أعطيك قصة شائقة ومثيرة. أقول هذا وأنا أقيم ببلد يعد اللياقة تقتضي الحذر من وصف أي امرأة بأنها عجوز. إنهم يستخدمون تعبير «ناضجة»، أو «ذات سن معينة»، أو بلغت «العمر الثالث». لكنني لم أعرف امرأة تود مغادرة العمر الثاني. نحن مثل دول العالم الثالث نفضل تسمية الدول النامية.

في بلادنا، يوصف الرجل المسن بأنه شيخ، من الشيخوخة. ومن هنا، جاءت ترجمة رواية همنغواي الشهيرة «الشيخ والبحر». لكننا لا نقول عن المسنة إنها شيخة، فلهذه المفردة دلالات أخرى. وقد عاشت ست الحبايب وماتت، رحمها الله، وهي تفرض على أحفادها مناداتها «ماما الكبيرة»، بدل «جدتي».

هات لي أي ماما كبيرة، مثل الست سيرانوش، وخذ مني التالي: لقد كانت واحدة من أشهر الطباخات في البصرة، عملت لفترة في فندق «شط العرب» الراقي الذي أراده الموظفون الإنجليز مقرا لهم، في ثلاثينات القرن الماضي. وهناك تعلمت إعداد الكيك بالجزر وأسرار مربى قشر البرتقال، بعد أن كانت بارعة في شواء سمك الصبور وتتبيل البرياني.

تزوجت سيرانوش بميكانيكي أرمني، مثلها، وتركت العمل وأنجبت ولدا وحيدا وظنت أن الدنيا ابتسمت لها. لكن الزوج مات، فجأة، بحمى التيفود وتركها بلا معيل، فعادت للعمل طباخة في البيوت. ثم جاء من دبر لها فرصة للزواج، مجددا، بقريب لها يقيم بأميركا، أرمل وميسور وسيوفر لها ما تحلم به. ولم تكن تحلم بأكثر من أن تطمئن على مستقبل ولدها الصغير. فقبلت العرض وتسلمت بطاقة السفر ووصلت إلى كاليفورنيا لتجد العريس شبه مقعد، وقد تعب أولاده وأحفاده من الاعتناء به وأرادوا له خادمة ممرضة ترفع عنهم العبء، لا زوجة.

تمنت لو كانت تملك ثمن التذكرة لتفر عائدة إلى بلدها. لكنها خجلت مما سيقوله الناس عنها، هناك، حين تعود خائبة. وهل هناك أكثر مهانة من المثل الشعبي: «تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي»؟ لقد استسلمت لإجراءات الزواج، على مضض، وتحدد الموعد ذات مساء خريفي، واشتروا لها فستانا أبيض وأخذوها إلى مصففة الشعر لتجري لها ما يلزم للعرائس. لكنها عندما خرجت من الصالون، ترتدي فستانها الأسود المعهود والطرحة مثبتة فوق تسريحتها، شاهدت تلاميذ المدارس يجرون في الشارع، عائدين إلى بيوتهم وهم يبكون ويرددون كلاما تتكرر فيه كلمة «برزدنت».

ما الخطب يا قوم؟ قالوا لها إن الرئيس كيندي قد قتل في دالاس والديرة كلها في حداد. إنها السماء تتدخل لنجدتها ولا يمكن لزواج أن يتم في مثل ذلك الظرف. مصائب قوم عند... عادت إلى البصرة وعملها وربت ولدها بعرق جبينها أمام الأفران حتى تخرج مهندسا. وها هي تروي لي الحكاية بفم خال من الأسنان ورأس متوج بالبياض، فأرى فيها العروس العراقية الحزينة الواقفة بالطرحة على رصيف أميركي قبل نصف قرن.