ذهب إلى ربه وهو لم يفارقه قط

TT

ودع بهدوء وحفاوة ضيوف منتداه الأسبوعي المسائي السبتي، وما كانوا يعلمون ولا هو، أنه الوداع الأخير، ليضع التراقي في أصعب موقف؛ إنه موت الفجأة، الذي لا تستطيع معه أن تغالب المشاعر ولا أن تعبر، ولا القلم أن يكتب، ولا العين أن تتحرك، لقد ذهب إلى خالقه مع أنه قط لم يفارقه.

كان يملأ الدنيا وطنية وتأليفا وتنظيرا وكتابة وأبوة وأخوة وإسعادا وملاطفة وضيافة ومرحا ومجاملات اجتماعية، وما خفي بين أسرته وأقاربه كان أبلغ، وإن لم يكونوا ينافسون ما يختزنه قلبه للصداقات التي يغمرها بما يفضي إليها من معاني المودة والحميمية.

د. محمد الأحمد الرشيد، الذي تولى وزارة التربية والتعليم السعودية (1996 - 2005) كان أول أكاديمي متخصص في مجال التربية يشغل هذا المنصب، وفي حقبته تغير اسمها من وزارة المعارف ودمج فيها تعليم الفتاة بعد أن بدأ تعليم الإناث مستقلا منذ عام 1960، وقد تعرض في أثناء ولايته الوزارية لحملة احتسابية من قبل معارضي مظاهر التحديث في المناهج، فضلا عن فكرة ضم النظامين في وزارة واحدة.

ومن قبل تكليفه بالوزارة، شغل مناصب تربوية جامعية عدة، كان منها عمادة كلية التربية بجامعة الملك سعود، وابتكار فكرة مكتب التربية العربي لدول الخليج وشغلها، كما أسهم بدور نشط في إنشاء جامعة الخليج في البحرين، وشارك في عضوية مجلس الشورى، وصار أحد أعضاء الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون الخليجي.

لكن اسمه يقترن وقتما يذكر - مع مجموعة ممن يعدون من عرابيها من أمثال د. حمود البدر، ود. عبد الله النافع، ود. عبد الله الحمدان - بفكرة تبني جامعة الملك سعود (الجامعة السعودية الرائدة التي تأسست عام 1957) لنظام الساعات المعتمدة المطبق في الجامعات الأميركية وفي جامعة البترول والمعادن بالظهران التي سميت لاحقا جامعة الملك فهد، وهو نظام استمرت معظم الجامعات السعودية تأخذ به إلى أن عدل جزئيا في حدود عام 1991، كي يكون أكثر مواءمة لظروف الفتيات، وكان الرشيد من أكثر الذين حزنوا على تعديله.

أما بعد أن تفرغ من أعباء الوظيفة، فقد استمر ناشطا اجتماعيا يخص مجال تخصصه التربوي والقضايا الفكرية عموما، وقضايا الإصلاح والمرأة خصوصا، بالكثير من كتاباته الأسبوعية وتعليقاته عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وبعدد من المؤلفات التي لا يتسع المقام لعرضها.

لا يخلو منزله ومزرعته بشكل شبه أسبوعي من مناسبة يحتفي فيها بقريب عائد من علاج، أو بصديق خارج من عزاء، أو بمحب انتقل إلى عمل جديد، أو بمفكر زائر للبلاد، يغمر وإخوانه وأبناؤه فيها ضيوفه الذين يفدون من كل صوب بالمحبة والإكرام.

كان محمد الرشيد - الذي ودع الدنيا مساء السبت الماضي وهو يصلي العشاء - كتلة من المعاني، لا تفيها إلا صفحات كتاب.