صورة الآخر

TT

تثير المشاركة في الحلقات النقاشية والمؤتمرات والاستماع إلى الآخرين والأفكار الجديدة ومقابلة شخصيات جدد والمعرفة فضولا كبيرا لدي، ولحسن طالعي نظم مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، مؤتمرا مهما ومتميزا في الثامن عشر والتاسع عشر من هذا الشهر نوفمبر (تشرين الثاني) في فيينا، وكان موضوع النقاش صورة الآخر.

كان المؤتمر أشبه بقوس قزح؛ تلاقت فيه الأفكار والتوجهات، كما كان فرصة فريدة للقاء شخصيات جديدة والتعرف عليهم، وكذا الأفكار والاختلافات العميقة التي تفسر عصرنا ودولنا وعالمنا.

ذكر أحد المتحدثين في كلمته: «لقد شيدنا مباني مرتفعة، لكن غضبنا كان أقصر، وأنشأنا طرقا سريعة واسعة لكن وجهات نظرنا كانت أكثر ضيقا، وأنفقنا المال لكن الحب الذي غرسناه كان أقل. نشتري الكثير لكن متعتنا لا تدوم، وشيدنا المباني الكبيرة لكننا أنشأنا عائلات أصغر، ونحظى بالكثير من وسائل الراحة لكن الوقت قصير للتمتع بها. ونلنا الكثير من الدرجات العلمية لكن المشاعر الإنسانية كانت أدنى، وحصلنا على الكثير من المعرفة لكن دون حكم راشد. وصار لدينا الكثير من الخبراء لكن المشكلات كانت أكبر، وتقدمنا في الطب لكن الصحة تدهورت. وامتلكنا من العقارات الكثير لكن القيم تدنت...

إننا نتحدث كثيرا، لكن الحب نادر والكراهية هي الأعم. تعلمنا كيف نكسب رزقنا، لكننا لم نتعلم كيف نعيش، وأضفنا سنوات إلى حياتنا لكننا لم نضف الحياة إلى سني عمرنا.

لقد سافرنا إلى القمر وعدنا لكننا عانينا في عبور الشارع للقاء جيراننا.

لقد غزونا الفضاء الخارجي، لكننا لم نستطع هزيمة الفضاء الداخلي، وغزونا الذرة، ولم نتغلب على أهوائنا. هذه هي أيام الوجبات السريعة والهضم البطيء، رجال كبار وشخصيات صغيرة، أرباح كبيرة، وعلاقات ضحلة. هذه هي أيام الدخول الكبيرة وارتفاع نسبة الطلاق، لدينا منازل فاخرة، وبيوت محطمة...».

أنا فخور كمسلم بكتابنا المقدس، القرآن الكريم، الذي يطل ويركز على جذور وروح الأديان، لا على أوراقها وفروعها وفقط. لو تمعنت في غابة كبيرة وقديمة، لرأيت جذور جميع الأشجار تتشابك مع بعضها البعض بطريقة أو بأخرى. وأحيانا، عندما ننظر إلى الجذور، يبدو كما لو أنها هي جذور لشجرة واحدة عملاقة، وأن هناك وحدة وطنية في الجذور، وتعددية في الجذوع.

لم يتحدث القرآن عن أن الخلاص حكر على المسلمين فقط. وربما تكون هذه هي النقطة الجوهرية بالنسبة لنا، لمعرفة كيفية التعرف على صورة أخرى، فبعض رجال الدين المسلمين، ونظرائهم من المسيحيين والحاخامات اليهود والشخصيات الدينية الأخرى، يعتقدون أن الجنة حكر على طائفتهم وفقط، وأن الآخرين سوف ينتهي بهم المطاف في النار، يقول القرآن الكريم:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) 62 سورة البقرة.

وقد تكررت هذه الآية في سورة المائدة الآية 69:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

إنها فكرة جميلة تلك التي في سورة البقرة، والمائدة أن مكان المسيحيين والصابئة في التسلسل أو الترتيب تغير، وهذا يعني أن هذا الترتيب لا يظهر أولوية أي دين في هذا السياق.

وقد ركز الشيخ بن بيّه، في خطابه المتمعن، على الإسلام، كدين يكمل الأديان الأخرى، بما في ذلك اليهودية والمسيحية، فيقول نبينا (صلى الله عليه وسلم):

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

بالإضافة إلى ذلك، كما نعلم، يستخدم القرآن لقب مسلم لإبراهيم وغيره من الأنبياء، والأهم من ذلك، يصر على أن ليس هناك فرق بين الأنبياء، مصداقا لقوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

إذا كنا نعتقد حقا أننا لسنا الوحيدين أصحاب الحقيقة، ونقبل أنها ليست حكرا على المسلمين فقط، حينئذ سنخلق عالما أفضل، عالما من قبول واحترام الآخر، أو خطوة أبعد من ذلك، أو نقدم فيه مطالب الآخرين على مطالبنا نحن.

يقول عز وجل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

وهناك في سورة الإنسان، لدينا هذا التفسير الفريد والاعتراف فيما يتعلق بعلاقتنا مع الآخر. وبعبارة أخرى، كما قال لي سوامي كيداناند في مؤتمر مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لعالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، إن كلمات الآخر قد تكون إما جسرا في حياتنا، أو ظلاما أو حجر عثرة في منتصف الطريق. إذا كنا نحب الله، ينبغي لنا أن نفهم أن الله لن يحبنا من دون محبة الآخرين.

لأننا نرى صورتنا في مرآة الآخرين. ربما يمكنني القول إن صورة الآخر هي صورتنا!