خدعوك بقولهم بيضاء!!

TT

أشعر بأننا كثيرا ما نرتاح إلى الكذبة التي ألفناها وألبسناها الثوب الأبيض، وربما ننزعج من الحقيقة التي قد تصدمنا للوهلة الأولى لأنها تحتاج إلى زمن نتداولها حتى نصدقها ونهضمها!!

قرأت أن كاتبين أميركيين قررا توثيق حياة الفنان العالمي فان جوخ، واكتشفا أن الحكاية الشهيرة التي رددها العالم كله، بأنه قد قطع إحدى أو كلتا أذنيه وقدمها على طبق من أجل إرضاء حبيبته قصة لا نصيب لها أبدا من الصحة، ولكننا بالتأكيد نميل أكثر إلى تصديق تلك الكذبة الدموية باعتبارها دليلا مباشرا على الحب المجنون.

لدينا الكثير من هذه الأكاذيب التي نصفها عادة بالبيضاء، خذ عندك مثلا هذه الحكاية التي نشرت مئات المرات وتفاصيلها أن أنور السادات عندما اقتحم الإذاعة المصرية الساعة السابعة والنصف من صباح 23 يوليو (تموز) عام 1952، وأذاع أول بيان لثورة يوليو التقى على سلم الإذاعة بالمطرب محمد رشدي سأله «ح تغني إيه النهارده» أجابه: «المكتوب ع الجبين»، انزعج السادات لأن هذا فأل سيئ، وطلب منه غناء «قولوا لمأذون البلد»، لو عدت إلى الأرشيف ستجد أن السادات لم يكذب هذه الواقعة قبل وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، ولو أمعنت التفكير أو حتى من دون أن تمعن ستكتشف استحالة حدوث ذلك، فما هي الفرقة الموسيقية التي يستيقظ كل أفرادها في الفجر لتسجيل أغنية، ثم الأهم أن شاهد الإثبات الوحيد، على قيد الحياة، وهو الإذاعي الكبير فهمي عمر، أطال الله عمره، كان مذيع الهواء أثناء أحداث الثورة أكد لي أن هذا محض خيال، ووثائق هذا اليوم في جدول البث الإذاعي تم الاحتفاظ بها ولن تجد فيها لا «قولوا لمأذون البلد» ولا «المكتوب على الجبين»!

حكاية ثانية وهي فيلم «شيء من الخوف» 1968 كلنا صدقنا ورددنا أن كاتب الرواية ثروت أباظة كان ينتقد شرعية عبد الناصر من خلال هذا النداء «جواز عتريس من فؤادة باطل» «عتريس» هو عبد الناصر و«فؤادة» مصر.. الرقابة وقتها انزعجت من الفيلم وشاهده عبد الناصر وصرح به، وقال لثروت عكاشة وزير الثقافة «لسنا عصابة تحكم مصر يا ثروت».. نعم عبد الناصر هو الذي صرح بالفيلم، ولكنه لم يشعر للحظة واحدة أنه «عتريس»، نحن الذين أسقطنا كل ملامح الطاغية على تلك الشخصية وفي نفس الوقت صارت «فؤادة» بكل جمالها وصمودها هي مصر فصدقنا تلك الكذبة ولا نزال، لو شك عبد الناصر في دوافع من شاركوا في «شيء من الخوف» لحرق الفيلم وأودعهم جميعا المعتقل!

من الأقاويل التي لها مذاق الحقيقة زواج سري جمع في الماضي بين أم كلثوم ومصطفى أمين، وأنها وجهت في قصيدة «الأطلال» إلى عبد الناصر عام 66 - رغم أنها كانت متزوجة من الدكتور حسن الحفناوي - نداء تطالبه بالإفراج عن مصطفي أمين مرددة بكلمات الشاعر إبراهيم ناجي «أعطني حريتي أطلق يديا إنني أعطيت ما استبقيت شيئا»، والحقيقة أنه فور إلقاء القبض على مصطفى أمين عام 64 بتهمة التجسس لحساب أميركا، اقتحمت المخابرات مكتبه في صحيفة «أخبار اليوم»، وعثروا بين الأوراق على وثيقة جواز عرفي بالمطربة الشهيرة شادية، وتسرب نصف الخبر زواجه من مطربة شهيرة، اعتقد الناس وعدد من المؤرخين أنها أم كلثوم وصارت كلمات «الأطلال» المغرقة في الرومانسية منشورا سياسيا ضد كبت الحريات!

عندما غنت شادية «آه يا اسمراني اللون» قبل 67 اعتبرها البعض غزل في عبد الناصر وعندما غنى حليم بعد 67 «اللي شبكنا يخلصنا» قالوا إنها تعريض بعبد الناصر، كلها أكاذيب «خدعوك بقولهم بيضاء»!