محمد الرشيد وداعا!

TT

الموت يعاود إطلالته علينا ليذكرنا بلا انقطاع أنه «الحقيقة الوحيدة والمستمرة» في هذه الحياة الدنيا، وأن رحيل الكبار دائما ما يكون له الوقع الأليم والشديد على من يتلقى الخبر عنهم. هكذا تماما كان شعوري وشعور الكثيرين غيري ممن تلقوا خبر وفاة الدكتور محمد أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق والمربي الفاضل.

رحل رجل من خيرة الرجال وأوفاهم وأنبلهم بعد حياة عاشها بمبادئ وقيم وأهداف كريمة لم يتزعزع عنها ولا بدلته المناصب، بقي كما هو يحظى بمحبة الناس وباحترامهم.

سيدون التاريخ المنصف في سجلاته يوما ما أن هذا الرجل هو الذي بدأ مسيرة تطوير التعليم في المملكة العربية السعودية وتحمل لأجل ذلك الأمر العظيم ما لا يتحمله الكثيرون من تشكيك في دينه وعقيدته ونواياه ووطنيته، وصمد أمام شلالات من الإهانات والسباب واللعن، كعادة الجهلة والحمقى والمتشددين المنغمسين في إساءة الظن بشكل همجي. ولكن الرجل واظب في مسيرته الإصلاحية والتصحيحية لقطاع التعليم الذي أصابه من الاهتراء والتخلف والانغلاق الشيء المهول. واستمر يتحاور مع معارضيه بأسلوب مليء بالأدب والخلق الرفيع والحجة العلمية والشرعية القوية التي تخرس ألسنة من كان يشكك فيه وفي مسيرته ونهجه.

لم يكتب للوزير الراحل أن يستكمل مهمته نظرا لخروجه من الوزارة، ومع ذلك واصل «الحضور» بصالونه الأدبي الرفيع الذي شرفت بالمشاركة فيه مرات كثيرة جدا وبكتاباته المنتظمة عن قضايا المجتمع والمعرفة والثقافة والتعليم. كان قارئا نهما ومتابعا دقيقا لا يمل من السؤال ولا من البحث، كان دائم الابتسامة وصاحب إطلالة بشوشة ومطمئنة تشرح صدور متابعيه، وله قدرة استثنائية على التواصل مع كل من تعرف عليهم مهما كانت انشغالاته وأحواله.

تعرفت على هذا الرجل الاستثنائي في منزل الأمير ماجد بن عبد العزيز رحمه الله على طاولة الإفطار كعادتي معه كل صباح، ودار بيننا حديث بسيط ومختصر وحرص أن يأخذ أرقام الهاتف ليفاجئني بالتواصل والدعوة إلى اللقاء. وبدأت بيننا علاقة إنسانية أعتز بها جدا، كل فحواها المحبة والاحترام والصدق والأمانة وهي صفات واضح أنها تعكس معدن الرجل النفيس وأصالته وأدبه.

كتب سيرته الذاتية في مجلد جميل، وكان الكتاب مليئا بالمواقف والنوادر والطرائف والقصص المؤلمة التي تظهر حياة فيها التقلبات التي تصقل الإنسان وتخرج أفضل ما فيه ليقدم هذه العبر للناس بعد أن تعلمها هو واستفاد منها ليطبقها في حياته العملية، وقد كان ذلك واضحا لكل من عرف الرجل عن قرب.

كان مهموما بالشأن العربي العام وينظر لتداعيات الأمور بقلق وخوف دائم مع إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى وإيمان بقدرات الشباب على أن يكونوا مصادر إنتاج وإبداع وعطاء متى ما أعطوا المناخ السوي والعادل لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم وآمالهم.

كل من عرف الراحل سيفتقده ويشتاق إليه ويحزن لألم الوادع، نودع الكبار بحزن أليم ولكن بصبر واحتساب ودعاء لهم بالمغفرة والرحمة، ولكننا في نفس الوقت نعي أيضا أن الكبار لا يمكن تعويضهم وأن خير عزاء يقدم لهم هو المحافظة على ذكراهم بتكرار الخير عن حياتهم بيننا وذكرهم بالطيب، والراحل كانت سيرته عطرة وجميلة فيها العشرات من المواقف المليئة بالعبر والدروس التي يمكن لأجيال مقبلة أن تستفيد منها.

جائزة باسم محمد الرشيد تقدم بشكل سنوي للمعلمين هي أقل وفاء وشكر تقدمه السعودية في حق هذا الرجل الاستثنائي.

رحم الله محمد الرشيد رحمة واسعة وأسكنه الله فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.