ظاهرة الإساءة إلى سارة بالين!

TT

في عام 2008، سألت المذيعة كيتي كوريك المرشحة لمنصب نائب الرئيس سارة بالين، في حوار شهير عن المجلات التي تقرأها، فترددت بالين ولم تحدد. سألتها بعد ذلك عن رؤيتها السياسية نحو روسيا، فقالت بالين إنها تعرف روسيا أكثر من غيرها، لأنها قادرة على رؤيتها من ألاسكا؛ الولاية التي تحكمها. بالطبع لم تكن إجابة موفقة، ولكن بسبب هذين الجوابين، هاجمت الصحافة الليبرالية اليسارية بالين بطريقة شرسة، وحولتها إلى رمز للسذاجة والغباء. آخر هذه الهجمات كانت شتيمة وجهها لها المذيع الإنجليزي المعروف مارتن بشير على قناة «msnbc». لا يمكن أن أذكر الشتيمة، لأنها مقززة.

الشتائم والأوصاف المقذعة بحق سارة بالين تحولت إلى ظاهرة تجاوزت بالين نفسها. ككل ظاهرة هناك أسباب أعمق تحركها، وهي تشرح بشكل ما طبيعة المشهد السياسي الأميركي الداخلي، الذي يزداد سخونة وتعقيدا بسبب التأثير الكبير للمال والإعلام. ظاهرة شتم بالين تنتعش، لأن هناك مستفيدين منها، وبالتأكيد هناك متضررون.

أكبر المستفيدين من هذه الظاهرة هو الحزب الديمقراطي نفسه، والإعلام الليبرالي الداعم له بشكل شبه دائم. تدمير صورة بالين وتصويرها بالغباء والسذاجة لا يعني أن ذلك صحيح. بالين كانت حاكمة جيدا، ومعدلات الرضا عن أدائها كانت مرتفعة، ولكنها لا تجيد الحديث في السياسة. جيدة في العمل الإداري وسيئة في الحديث والتنظير. مشكلتها - أو ربما لمصلحتها كما سنرى بعد قليل - أنها استمرت في الظهور الإعلامي بعد هزيمة 2008، من دون أن تطور من ثقافتها السياسية ومهاراتها في الجدل والحوار، مما جعل الصحافة تتعرض أكثر لها، لدرجة الشتم والإهانة الشخصية. بالطبع هدف هذا الإعلام الذي يلقى الرواج كلما زاد من تهوره ليس بالين نفسها، ولكن الحزب الجمهوري الذي يسعى لربطه بالتعصب والجهل وبغرض تشويه صورته وتخويف الناخبين منه. هاجم هذا الإعلام الرئيس جورج دبليو بوش بشكل شرس، وجرى ربطه بصورة الرجل الجاهل والمتسرع، وهناك أفلام أنتجت عنه، كفيلم «دبليو» للمخرج أوليفر ستون، ولكن كل محاولات القولبة هذه وغرس صورة ذهنية معينة عنه، تبخرت، ولم تصمد مع الوقت. لكن بالين هدية من السماء بالنسبة للإعلام وللديمقراطيين. إنها لا تتوقف عن الكلام، وهم لا يتوقفون عن الهجوم والتعميق من مخاوف حول ما بات يسمى بالرجل الأبيض الغاضب. بالطبع الإعلام الجمهوري يقوم بالشيء ذاته، عندما يحوّل خطأ سياسي واحد إلى خطأ الحزب كله. مثال على ذلك عندما ربط الحزب الديمقراطي بالتهتك، بعد أن قام الديمقراطي أنتوني وينر بإرسال صور فاضحة له على حسابه في «تويتر». الفرق بين وينر وبالين، أن وينر ذهب، وبالين باقية.

ولكن هل بالين متضررة أم مستفيدة؟ إذا كانت متضررة، فإنها سترحل مبكرا، لأن بقاءها من دون أن تعيد ابتكار صورتها من جديد سيضر بحظوظها، إذا ما أرادت الترشح في سنوات مقبلة للانتخابات الرئاسية. هذا صحيح، إذا كانت تفكر كسياسية، ولكن بالين تفكر كنجمة، واهتمامها منصبّ على الشهرة والمال أكثر من السياسة. إصرار بالين على الحضور في المسرح السياسي وصعودها على ظهر حصان حزب الشاي الجامح منذ سنوات، أغدق عليها ملايين الدولارات جراء الكتب التي تنشرها - وقد نشرت أكثر من كتاب - والمحاضرات التي تلقيها، وأغلفة المجلات التي تتصدرها، والبرامج التي تقدمها. منذ دخولها المسرح السياسي على يد جون ماكين تحولت بالين إلى نجمة استطاعت أكثر من أي سياسي آخر أن تحوّل نجوميتها إلى مال واستثمار، لذا من الخطأ النزول عن المسرح السياسي المشتعل الذي يعني المزيد من الأرباح، بل المنطقي البقاء فيه أطول فترة ممكنة. لذا فإن الشتائم التي تُوجّه لبالين لا تضرها في الحقيقة، بل تزيد من شعبيتها وجماهيريتها، وهي تسعى دائما لإثارة المشكلات والإدلاء بتصريحات مستفزة متعمدة، بغرض الاستثمار المالي.

الحزب الجمهوري هو الوحيد المتضرر من ظاهرة «شتم بالين»، لأنها تشوه صورته بين الناخبين المترددين. لهذا السبب، قال نائب الرئيس السابق ديك تشيني في تصريحات سابقة، في محاولة منه ليبعدها عن الجمهوريين، إن اختيار بالين كان خطأ ارتكبه ماكين، بعد أن ساهم في إدخالها من أوسع باب، وعجز بعد ذلك عن إخراجها. لهذا عدّ تشيني أن اختيارها كان إشارة واضحة على أن ماكين لم يكن ناضجا بما فيه الكافية لأن يكون الرئيس. ماكين لم يعتبر ما فعله خطأ، ولكن يقال فعلا إنه نادم على ترشيح بالين لمنصب نائبة الرئيس، لأن ذلك فتح هجوما عليه من خصومه والحاقدين عليه لم يتوقف منذ ذلك الوقت. ولكن حديث تشيني عن بالين لم يعجب ابنته ليز التي تستعد قريبا لدخول المعترك السياسي. السبب وراء ذلك يكشف عن الانقسام داخل الحزب الجمهوري بين أنصار حزب الشاي وكبار الجمهوريين الذين يواجهون هجوما بسبب خسارتهم مرتين أمام الرئيس أوباما. ابنة تشيني تفكر بمستقبلها السياسي، لذا لا تريد أن تخسر نجمة سياسية كسارة بالين قد تستفيد من جماهيريتها وشعبيتها مستقبلا. بمعنى آخر، كبار الجمهوريين ناقمون على بالين بسبب استخدامها كرمز للجهل والسذاجة من قبل الخصوم، ولكن الصاعدين الجدد يعتقدون أنه يمكن الاستفادة منها، لذا من الخطأ استراتيجيا معاداتها.