اللحظتان الجوهريتان: الدخول والخروج

TT

ربيع 1968 رفع الزعيم التشيكوسلوفاكي ألكسندر دوبتشك شعارا بسيطا: «الاشتراكية بوجه إنساني». قال ذلك من موقعه كشيوعي، لا كعدو رأسمالي. طلب قليلا من الحرية وقليلا من الانفتاح وقليلا من النوافذ. فقط. رد الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف على ذلك، بإرسال دبابات حلف وارسو إلى براغ. سحق الربيع. أحكم إغلاق النوافذ. ختم باب الحريات بالشمع الأحمر. سرح حاجبيه الكثين. ونام.

حوّل عتاة الحزب الشيوعي رفيق الربيع إلى لا أحد. روى صديقي الراحل عبد العزيز شخاشير أنه التقى دوبتشك مديرا لمعمل صابون في مدينة براتيسلافا. عام 1988 بدأت كتلة الدول الشيوعية في الانهيار. سوف تنهار تماما بعد قليل فوق 20 عاما من اضطهاد الرجل الذي طالب للاشتراكية «بوجه إنساني». هذا كل شيء.

لكن العقل الحديدي الصدئ الذي كان يحكم الكتلة الاشتراكية خشي أن تتحول نسائم دوبتشك إلى عاصفة. وفي عام 1990 استقبل ميخائيل غورباتشوف رجل ربيع براغ في الكرملين. تأمله وتأمل الشيوعية التي تتفتت كالتراب بين أصابعه، وقال وهو يودعه: لو أننا سرنا على طريق دوبتشك لما كنا اليوم على هذه الحال.

لو أصغى بريجينيف إلى صوت ذلك الإنسان لربما عاشت الشيوعية المستصلحة كنظام وتطورت واستمرت. لكنه قرر أن يصغي إلى العتاة وخريجي البقايا الستالينية. سقط النظام الشيوعي العالمي كله كجلمود صخر من عل. انهار جدار برلين حجرا ورمزا. ولم يعش ألكسندر دوبتشك ليرى براغ وعواصم أوروبا الشرقية تنافس زميلاتها في أوروبا الغربية وتنضم إليها في وحدة تعمل بالحرية والانفتاح والقانون.

كل ما طالب به ربيعيو النظام العربي، هو شيء من نصف نافذة مفتوحة. قليل من الحرية في تونس بدل الحكم المغلق كالحديد. أن يحدد مبارك عدد عهوده في مصر. أن يتواضع بشار الأسد قليلا في سوريا. أن يكتفي علي عبد الله صالح بثلث قرن في صنعاء. جميعهم عرفوا اللحظة المناسبة للدخول وتجاهلوا اللحظة المناسبة للخروج. بالقليل من دوبتشك كان يمكن تجنب كل هذا الانهيار المريع. كان شيخ العلم الاستراتيجي العسكري كلاوزفيتز يقول إنه قبل أن يتعلم القائد كيفية الهجوم يجب أن يدرس كيفية الانسحاب. إذا أخفق في ذلك يتحول الربيع إلى ما تحول إليه في براغ: النسائم تسحق الدبابات ولو بعد حين.